منذ أن بدأت تتضح معالم ما عُرف لاحقًا بـ”صفقة القرن”، لم تكن دولة الإمارات بعيدة عن تفاصيل المخطط، بل كانت أحد أبرز اللاعبين الذين تبنّوا المشروع وعملوا على ترويجه وتثبيته إقليميًا وانخرطت في خطة إسرائيل الكبرى لتغيير الشرق الأوسط.
ولي عهد أبوظبي آنذاك، محمد بن زايد، لم يكن مجرد مطّلع على الخطة، بل كان من أوائل من راهنوا على انتصارها، وعمل على تحويلها من رؤية إسرائيلية أميركية إلى واقع إقليمي تفرضه الوقائع الجديدة على الأرض.
لقاء 2019.. نقطة التحول
في عام 2019، وخلال مداولات مغلقة في قصر الحكم بأبوظبي، تلقى محمد بن زايد عرضًا تفصيليًا من فريق أمن الدولة، يتضمن تصورًا استراتيجيًا صاغته لجنة إسرائيلية-أميركية في “المعهد الصهيوني للأمن القومي” في تل أبيب. العنوان كان واضحًا ومباشرًا: “شرق أوسط بعد التسوية الكاملة”، وهو العنوان الذي أصبح لاحقًا الاسم غير الرسمي لصفقة القرن.
خطة “تطهير الشرق الأوسط ديمغرافيًا وسياسيًا”
تقوم الخطة على مبادئ أربعة صادمة في جوهرها:
لا فلسطينيين يشكّلون أغلبية داخل فلسطين التاريخية، سواء في الضفة أو الداخل أو غزة.
لا حكومات عربية تعارض وجود إسرائيل أو تعرقل مشروعها الإقليمي.
لا خرائط متنازع عليها، بل حدود محسومة لصالح إسرائيل.
قيادة إقليمية جديدة تتصدرها تل أبيب، وتُمنح شرعية عربية تدريجية.
بكلمات أبسط، الشرق الأوسط الجديد الذي تطرحه الخطة هو شرق أوسط منزوع المقاومة، خالٍ من الرفض، تهيمن فيه إسرائيل بلا منازع، وتُستتبع فيه الدول العربية التي فقدت سيادتها أمام سطوة المال والنفوذ الخارجي.
محمد بن زايد.. من متلقٍ إلى شريك منفذ
في المداولات ذاتها، لم يُبدِ محمد بن زايد تحفظًا على البنود، بل اعتبرها فرصة لإعادة رسم التحالفات الإقليمية، خاصة في ظل ما اعتبره “انكفاءًا أميركيًا” عن المنطقة، وصعودًا إسرائيليًا مضمونًا بحماية أميركية.
ومع تصاعد الحديث عن صفقة القرن، بدأ بن زايد تحريك أدواته: فتح قنوات تواصل مع القيادة الإسرائيلية، وأدار حملة علاقات عامة لتسويق “السلام مقابل الرخاء”، وبدأ في تطبيع بارد عبر بوابات الاقتصاد والثقافة، حتى إعلان التطبيع رسميًا في أغسطس 2020، ضمن اتفاقيات إبراهام.
وثيقة مايو 2021… الحسم السياسي والأمني
وثيقة سرية مؤرخة في مايو 2021، كشفت لاحقًا عن حجم التورط الإماراتي في الخطة، حيث ورد فيها، حسب مصادر مطلعة:
“المعادلة واضحة: إسرائيل تريد أرضًا بلا فلسطينيين، ودولًا تسمع وتطيع. ولتحقيق ذلك، ستُضرب إيران أولًا… وعلى الحلفاء أن يختاروا مواقعهم.”
الرد الإماراتي لم يتأخر: اصطفاف كامل خلف تل أبيب، تسويق للخطة في المغرب والبحرين ومصر، وإشارات متكررة للرياض بضرورة اللحاق بالركب. لكن السعودية، رغم تماهيها في ملفات عديدة، بقيت حذرة، وأبقت مسافة محسوبة عن مشروع الشرق الأوسط الجديد.
التهجير عبر “الإغاثة”.. والإعمار المشروط
في المشهد الغزي، تتضح الخطة بأبشع صورها. لم تعد المعابر مجرد بوابات لدخول المساعدات، بل تحولت إلى قنوات مفتوحة للتهجير القسري، تحت غطاء “الإغاثة”.
وتحوّلت شروط الإعمار إلى أدوات لإعادة تشكيل التركيبة السكانية، وضمان عدم عودة عشرات الآلاف من المهجرين إلى منازلهم المدمّرة.
الإمارات التي تصدّرت مشهد “الإعمار” في غزة ما بعد الحروب السابقة، عادت اليوم لتؤدي الدور نفسه ولكن بآليات جديدة: مشاريع مشروطة، تدخلات أمنية، وعلاقات مباشرة مع الاحتلال، دون المرور بأي شرعية فلسطينية.
ما بعد غزة.. تحجيم الضفة وتعريب إسرائيل
الخطة الإسرائيلية لم تقف عند حدود غزة. فالمراحل التالية شملت:
تحجيم الضفة الغربية عبر التوسع الاستيطاني والقيود الأمنية.
تفريغ المناطق الفلسطينية من سكانها الأصليين باستخدام أدوات اقتصادية وسياسية.
دفع عرب الداخل الإسرائيلي نحو “الهجرة الطوعية” تحت وطأة التحريض والتضييق.
تعريب إسرائيل وإعادة تقديمها كقوة إقليمية شرعية، تخاطب الشعوب العربية بلغتها وثقافتها، وتستثمر في مراكز نفوذ إسلامية.
الحرب على إيران.. توقيت غير مفاجئ
حين اندلعت المواجهة الكبرى مع إيران، لم يُفاجَأ محمد بن زايد. كان جزءًا من مسار التمهيد، ومطلعًا على ترتيباتها، وربما من أبرز من شجعوا عليها باعتبارها الخطوة الحاسمة لإعادة رسم خرائط المنطقة.
فإيران – في الرؤية الإسرائيلية والإماراتية – تمثل العقبة الأخيرة أمام فرض الهيمنة الإسرائيلية الكاملة، وتثبيت المعادلة الجديدة.
الفلسطينيون خارج المشهد… والخريطة تُرسم من فوقهم
وسط كل ذلك، يبقى الفلسطينيون خارج حسابات اللاعبين الكبار. تُرسم الخرائط فوق رؤوسهم، وتُحدَّد مصائرهم دون مشاركتهم.
أما محمد بن زايد، فيراهن على إعادة هندسة القضية الفلسطينية بما يخدم “السلام الإسرائيلي” الجديد، عبر تحويل الفلسطينيين إلى مجموعات معزولة، منزوعة التأثير، متنازعة القيادة.
وعليه فإن انخراط الإمارات في خطة إسرائيل الكبرى ليس تكتيكًا عابرًا، بل جزء من رؤية استراتيجية يتبناها محمد بن زايد لإعادة ترتيب المنطقة على أسس جديدة.
“الشرق الأوسط الجديد” الذي تسعى إسرائيل لتثبيته، يجد في أبوظبي شريكًا متحمسًا، مستعدًا لفعل كل ما يلزم مقابل موقع متقدم على طاولة النظام الإقليمي القادم. أما فلسطين، فهي الثمن الذي ارتضاه البعض لقاء “شرعية جديدة” تُصاغ بمداد الاحتلال.