منذ توقيع “اتفاقيات إبراهام” في عام 2020، لم تكتفِ الإمارات بتطبيع العلاقات مع إسرائيل على المستوى الدبلوماسي، بل اندفعت في بناء شبكة معقّدة من النفوذ الناعم والصلب داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية.
هذا النفوذ لم يتأسس فقط على أساس التعاون الرسمي، بل تجذّر من خلال تمويل واسع النطاق استُخدم كوسيلة لشراء الولاءات، التأثير على صناعة القرار، وتأمين الحماية السياسية والأمنية لأبوظبي.
الواجهة الناعمة: مؤسسات الغلاف والتمويل المغلف
تعمل أبوظبي وفق استراتيجية مزدوجة. على السطح، تنشط مؤسسات مثل “هداية”، “منتدى السلم”، و”صواب”، تحت عناوين براقة كـ”مكافحة التطرف” و”نشر التسامح”.
لكن الإمارات في العمق، لا تمثل سوى واجهات لعمليات أعمق بكثير، تهدف إلى توجيه التمويل الإماراتي لأذرع الضغط داخل إسرائيل والولايات المتحدة.
تمويل المؤتمرات، توزيع الجوائز الأكاديمية، إنشاء مراكز أبحاث، ورعاية منتديات فكرية، كلها أدوات استخدمتها الإمارات لتكريس حضورها داخل نخب الحكم وصناعة السياسات في تل أبيب.
غير أن هذا التمويل لم يكن بريئًا. فقد تم تغليفه بما يُسمى بـ”الشراكات الفكرية” و”الحوار بين الأديان”، لكنه في الجوهر كان غطاءً لتمويل غير مباشر لمجموعات ضغط إسرائيلية ذات توجهات يمينية متطرفة، تشترك مع أبوظبي في رؤية واحدة: سحق الحركات الإسلامية، تجريم المقاومة الفلسطينية، وتبرير السلطوية في الشرق الأوسط.
مسار التنسيق بين النعيمي وفريق بينيت
التحوّل النوعي في هذا المسار بدأ في عام 2021، مع صعود نفتالي بينيت إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
فقد لعب علي راشد النعيمي، بصفته المستشار المقرب من محمد بن زايد، دورًا محوريًا في نسج العلاقة مع فريق بينيت، وعلى رأسه مدير مكتبه تال غان تسفي.
وتمخض هذا التعاون عن بناء قنوات خلفية لتوجيه الأموال الإماراتية، عبر كيانات محسوبة على شخصيات إسرائيلية بارزة، دون أن تظهر في الواجهة الرسمية.
الأموال لم تُقدم بشكل مباشر لمسؤولين إسرائيليين، بل جرى توظيفها عبر كيانات قانونية تدير ما يسمى بـ”برامج مشتركة”، من بينها منتديات يمينية مثل:
منتدى كوهلت للسياسات (Kohelet Policy Forum)
منتدى شيلو (Shiloh Policy Forum)
المعهد الصهيوني للإستراتيجيات (Institute for Zionist Strategies)
هذه الكيانات، رغم تقديم نفسها كمراكز أبحاث، تمثل الأدوات الرئيسية لصياغة سياسات يمينية متطرفة في إسرائيل، وهي ذاتها التي دعمت مشاريع قانون تهدف لتقويض استقلال القضاء، تعزيز الاستيطان، وتحجيم دور المحكمة العليا.
وبفضل التمويل الإماراتي، تمكّنت من توسيع نطاق عملها، وفتح مكاتب تمثيلية في بروكسل وواشنطن، لتلعب دورًا في ترويج الرواية الإسرائيلية الرسمية، مع تمويه الطابع الإماراتي للتمويل.
صفقات سياسية تحت الطاولة
في مقابل هذا التمويل، لم تكن أبوظبي تشتري فقط النفوذ داخل إسرائيل، بل كانت تشتري أيضًا الحماية. فقد قدّم نفتالي بينيت لمحمد بن زايد ضمانات مباشرة، أهمها تجنيد لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، وهي أقوى لوبي صهيوني في واشنطن، للوقوف إلى جانب الإمارات في وجه أي انتقادات تتعلق بحقوق الإنسان، أو ممارساتها في اليمن وليبيا والسودان.
المعادلة كانت واضحة: المال الإماراتي يدعم حلفاء بينيت داخليًا، وبينيت يُسخّر نفوذه ونفوذ AIPAC خارجيًا للدفاع عن النظام الإماراتي في دوائر القرار الأمريكية.
كما جرى ترتيب لقاءات غير معلنة بين ممثلي تلك المراكز وشخصيات مقربة من الحزب الجمهوري، لضمان استمرار دعم البيت الأبيض للإمارات، بصرف النظر عن الملفات الحقوقية أو الجرائم الإقليمية.
اللقاء السري في يناير 2025: القلق من انكشاف اللعبة
وفق معلومات مؤكدة، عُقد لقاء سري في يناير 2025 بين محمد بن زايد ونفتالي بينيت، جرى خلاله مناقشة مستقبل شبكة المصالح المشتركة، خاصة بعد اهتزاز وضع بنيامين نتنياهو داخليًا، وتراجع قبضة الحكومة اليمينية.
بينيت حاول طمأنة بن زايد بأن “كل شيء تحت السيطرة”، وأكد ضمانه للولاء داخل جهاز الشاباك، وهو ما يعني استمرار غطاء الحماية لهذه الشبكة.
لكن هذه التطمينات لم تُقنع بن زايد. فالتقارير الاستخباراتية القادمة من تل أبيب أشارت إلى أن كشف صفقة تمويل واحدة قد يؤدي إلى انهيار بقية الشبكة، ويجرّ فضائح واسعة قد تُعرّض الإمارات للمساءلة في إسرائيل، وأمام منظمات دولية في أوروبا وأمريكا.
والإمارات تعرف جيدًا أن العلاقة مع إسرائيل ليست مجرد تحالف عابر، بل رهان استراتيجي على حماية بنية نظامها من السقوط أو العزلة. ولذلك، فإن أي خلل في ثقة تل أبيب بهذه الشبكة قد يعني خسارة أحد أعمدة الأمن السياسي لنظام الحكم في أبوظبي.
الدلالات الخطيرة: تواطؤ نخب فكرية في مشروع الإفساد
ما يثير القلق أكثر هو التواطؤ المتعمد من نخب أكاديمية وفكرية إسرائيلية ساهمت في تبرير هذا التدخل الإماراتي، بل وحصلت على مكافآت شخصية في شكل جوائز، منح دراسية، ورعاية مؤتمرات.
هذا يطرح تساؤلات أخلاقية عن حدود العلاقة بين “المال الإماراتي” وصناعة القرار في الديمقراطيات الغربية، حتى حين تكون مموهة بعبارات فضفاضة كـ”الحوار بين الأديان” أو “محاربة التطرف”.
وبالإجمال فإن ما تبنيه الإمارات في إسرائيل ليس مجرد علاقات دبلوماسية، بل شبكة نفوذ محكمة، قائمة على المال والابتزاز السياسي، تخترق مراكز القرار، وتوظّف المراكز البحثية كستار لتوجيه السياسات الإسرائيلية بما يخدم مصالح أبوظبي.
هذه العلاقة لا تشكل فقط خطرًا على الشفافية داخل إسرائيل، بل أيضًا على التوازنات الإقليمية، إذ تعني عمليًا أن نظامًا سلطويًا مثل النظام الإماراتي، يملك اليوم أدوات حقيقية للتأثير على واحدة من أكثر الدول حساسية في الشرق الأوسط. ومع تزايد الغضب الشعبي من فساد الطبقات الحاكمة، يبقى السؤال: كم من الوقت يمكن لهذه الشبكة أن تبقى بعيدة عن الانكشاف؟.