الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ هُدًى وَنُورًا، وَيَسَّرَ تِلاَوَتَهُ تَيْسِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}([1]).
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: نَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ، وَالذِّكْرَ وَتِلاَوَةَ الْقُرْءانِ، فَإِنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ الْعَزِيزُ، أَنْزَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هدى ورَحْمَة، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى}([2]). فَبِتِلاَوَتِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَسْكُنُ النُّفُوسُ، وَتَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([3]).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ الْقُرْءانَ الْكَرِيمَ كِتَابٌ مُبَارَكٌ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}([4]). وَرَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْءانُ فِي أَكْثَرِ لَيَالِي رَمَضَانَ بَرَكَةً، وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}([5]).
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: إِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْءانِ تُهَذِّبُ السُّلُوكَ، وَتُحَسِّنُ الأَخْلاَقَ، وَتُقَوِّي اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، فَمَنْ عَمِلَ بِأَوَامِرِ الْقُرْءانِ وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيَهُ فَقَدْ تَخَلَّقَ بِخُلُقِ الْقُرْءانِ، ومَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَرَأَ الْقُرْءانَ وَتَدَبَّرَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ؛ تَحَقَّقَتْ لَدَيْهِ التَّقْوَى، وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَـ{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}([6]).
فَلِمَاذَا نَقْرَأُ الْقُرْءانَ أَيُّهَا الصَّائِمُونَ؟
نَقْرَأُهُ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ فَقَالَ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ}([7]). وَقَدْ وَعَدَ سُبْحَانَهُ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى تَرْتِيلِ ءايَاتِ الْقُرْءانِ وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ بِالأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَالثَّوَابِ الْكَرِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»([8]). وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْءانِ الْكَرِيمِ تَعُمُّ السَّكِينَةُ، وَتَتَنَزَّلُ الرَّحْمَةُ، فَالْقُرْءانُ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ، وَجلاَءٌ لِلْهُمُومِ، وَذَهَابٌ لِلأَحْزَانِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}([9]).
يَا أَهْلَ الْقُرْءانِ: لِمَاذَا نَحْرِصُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْءانِ فِي رَمَضَانَ؟
لأَنَّ الْقُرْءانَ وَالصِّيَامَ يَشْفَعَانِ لِلإِنْسَانِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَيَجْتَمِعُ لَهُ الشَّفِيعَانِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ وَالْقُرْءانُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْءانُ: رَبِّ، إِنِّي مَنَعْتُهُ النَّومَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ»([10]).
وَقَدْ كَانَ القُرْءانُ يَأْخُذُ الْحَظَّ الأَوْفَرَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالأَتْقِيَاءِ.
وَفِي رَمَضَانَ يُقْبِلُ الْمَرْءُ عَلَى الْقُرْءانِ يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلاً؛ اسْتِجَابَةً لأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلًا}([11]). وَيَعْتَنِي بِتَصْحِيحِ تِلاَوَتِهِ، وَاتِّبَاعِ أَحْكَامِ تَجْوِيدِهِ، وَيُصْغِي إِلَى الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ وَأَحْكَامِ التِّلاَوَةِ الْمُتْقَنَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}([12]). وَيَحْرِصُ عَلَى حُضُورِ حَلقَاتِ تَحْفِيظِ الْقُرْءانِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمَرَاكِزِ تَحْفِيظِ الْقُرْءانِ الْكَرِيمِ، فَهِيَ تُعَلِّمُ قِرَاءَةَ الْقُرْءانِ وَتَجْوِيدَهُ، وتُيَسِّرُ تِلاَوَتَهُ وَتَرْتِيلَهُ، وَإِنَّ اسْتِثْمَارَ أَوْقَاتِ الأَبْنَاءِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْءانِ وَحِفْظِهِ وَفَهْمِهِ؛ لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ وَأَبْنَائِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا تِلاَوَةَ كِتَابِكَ ءانَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيكَ عَنَّا، وَشَفِّعْ فِينَا الْقُرْءانَ وَالصِّيَامَ، وَوَفِّقْنَا جَمِيعًا لِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
نَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْقُرْءانِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.