هُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خنوخ – وَهُوَ إِدْرِيس – بن يرد بن مهلاييل بْنِ قَيْنَنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدم أَبى الْبشر عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ مِائَةَ سَنَةٍ – كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ – فَبَيْنَهُمَا أَلْفُ سَنَةٍ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ بِاعْتِبَارِ مَا قَيَّدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْإِسْلَامِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ أُخَرُ مُتَأَخِّرَةٌ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَزَادَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ مِنَ النَّاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ” وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ من بعد نوح ” وَقَوْلُهُ: ” ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ” وَقَالَ تَعَالَى: ” وقرونا بَين ذَلِك كثيرا ” وَقَالَ: ” وَكم أهلكناه قبلهم من قرن ” وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي … ” الْحَدِيثَ، فَقَدْ كَانَ الْجِيلُ قَبْلَ نُوحٍ يُعَمِّرُونَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ، فَبَعْثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ قَوْمُهُ يُقَالُ لَهُم بَنو راسب فِيمَا ذكره ابْن جُبَير وَغَيْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ سِنِّهِ يَوْمَ بُعِثَ، فَقِيلَ كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ابْنَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ابْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سنة حَكَاهَا ابْن جرير، وَعزا الثَّالِثَة مِنْهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ” إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ” قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. وَقد قَالَ الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا أبوالزنباع روح بن فرج، حَدثنَا عمر بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبى قَتَادَة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رَبَاحٍ أَبِي فِرَاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ” صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَصَامَ دَاوُدُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَصَامَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صَامَ الدَّهْرَ وَأَفْطَرَ الدَّهْر “.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ – هُوَ ابْن أَبى صَالح – عَن سَلمَة بن دهران، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَتَى وَادِي عُسْفَانَ قَالَ: ” يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ ” قَالَ هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: ” لقد مر بِهَذَا نوح وَهود وَإِبْرَاهِيم على بكران لَهُمْ حُمْرٍ خَطْمُهُمُ اللِّيفُ، أَزُرُهُمُ الْعَبَاءُ وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُيَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ “. والحديث فيه غرابة
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ، فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ; فَفِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ وَاقْتَرَبَتْ، وَأَنْزَلَ فِيهِ سُورَةً كَامِلَةً. فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ” لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إيا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ من الله مَا لَا تعلمُونَ * أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين “.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الانبياء: ” ونوحا إِذْ نَادَى من قبل فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ “.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: ” وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيره أَفلا تَتَّقُون * فَقَالَ الملا الذى كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لمبتلين “.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ” كَذَّبَتْ قَوْمُ نوح الْمُرْسلين * إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِن أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * فَاتَّقُوا الله وأطيعون * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين * قَالُوا لثن لم تَنْتَهِ يَا نوح
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيث ابْن جريح عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ” وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ ونسرا ” قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذا هلك أُولَئِكَ وانتسخ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَب بعد. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ. فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ ابْن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: وَدٌّ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَسُوَاعٌ ونسر، أَولا د آدم، وَكَانَ ” ود ” أكبرهم وأبرهم بِهِ. وَقَوْلُ كَفَرَةِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ: ” وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ” أَيْ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ أَمْرٌ بَعْدَ اتِّصَافِكُمْ بالايمان وَلَا مرية عَلَيْنَا ” بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وآتاني رَحْمَة من عِنْده فعميت عَلَيْكُم أنلزمكوها وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون “. وَهَذَا تَلَطُّفٌ فِي الْخِطَابِ مَعَهُمْ: وَتَرَفُّقٌ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ” فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخْشَى ” وَقَالَ تَعَالَى: ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، وجادلهم بالتى هِيَ أحسن ” وَهَذَا مِنْهُ. يَقُول لَهُم: ” أرأيتهم إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَة من عِنْده ” أَي النُّبُوَّة والرسالة، ” فعميت عَلَيْكُم ” أَيْ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا وَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا، ” أَنُلْزِمُكُمُوهَا ” أَيْ أَنَغْصِبُكُمْ بِهَا وَنَجْبُرُكُمْ عَلَيْهَا؟ ” وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُون ” أَيْ لَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. “وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أجْرى إِلَّا على الله ” أَيْ لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى إِبْلَاغِي إيَّاكُمْ مَا ينفعكم فِي دنيا كم وَأُخَرَاكُمْ، إِنْ أَطْلُبْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الَّذِي ثَوَابُهُ خَيْرٌ لِي، وَأَبْقَى مِمَّا تُعْطُونَنِي أَنْتُمْ.
وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ” فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خمسين عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ ” أَيْ وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ. وَكَانَ كُلَّمَا انْقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمُحَارَبَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ. وَكَانَ الْوَالِدُ إِذَا بَلَغَ وَلَدُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ كَلَامَهُ، وَصَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَلا يُؤْمِنَ بِنُوحٍ أَبَدًا مَا عَاشَ وَدَائِمًا مَا بقى. وَكَانَتْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: ” وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا “. وَلِهَذَا: ” قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جسدا لنا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُم بمعجزين ” أَي إِنَّمَا يقدر على ذَلِك الله عزوجل، فَإِنَّهُ الذى لَا يعجزه شئ وَلَا يكترثه أَمر، بل هُوَ الذى يَقُول للشئ كن فَيكون. ” وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون ” أَيْ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ، هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ.