طبعت الحروب بين المسيحيين والمسلمين ملامح أوروبا عبر قرون طويلة. فالكثير من الدول الأوروبية التي تتباهى اليوم بالتسامح بُنيت في الحقيقة فوق تركة ثقيلة من الصراعات الدينية.
ومع ذلك، ما تزال آثار هذا الماضي تطفو في مدن ومقاطعات مختلفة، حيث تظهر على شعاراتها الرسمية وأعلامها صور رؤوس مقطوعة، غالباً ما يُفهم أنها رؤوس لمسلمين. وتستحضر هذه الرموز انتصارات الجيوش المسيحية وتعيد إنتاج مشاهد من الحروب القديمة.
وقد ارتفعت أصوات عديدة في السنوات الأخيرة تنتقد استمرار هذه الممارسات، معتبرة أنها تكشف عن عمق النزعة العنصرية والدينية في الوعي الأوروبي. فالإصرار على استخدام هذه الرموز يوحي بأن أوروبا لم تُجر مراجعة حقيقية لإرثها الدموي.
الرأس الموري
يُشار إلى هذه الرؤوس غالباً باسم “الرأس الموري”. وتظهر بعض النسخ رجلاً أسود البشرة يُعرف بـ “الموري الأسود”، فيما تظهر أعلام أخرى رؤوساً مقطوعة لرجال سمر ذوي لحى واضحة. وعلى اختلاف التفاصيل، تبقى الصورة العامة واحدة: رأس مقطوع لرجل.
وكان مصطلح “المور” يُستخدم تاريخياً للإشارة إلى أصحاب البشرة الداكنة، وخصوصاً سكان شمال أفريقيا وجنوب الصحراء. لكن في الثقافة المسيحية الأوروبية ارتبط الاسم تحديداً بالمسلمين، وخصوصاً المسلمين الذين عاشوا في الأندلس. ولذلك أصبح رأس “المور” رمزاً مرتبطاً مباشرة بالذاكرة المسيحية عن مواجهة المسلمين.
جذور القصة
تشير القرائن إلى أن هذه الرؤوس تعود إلى أحداث عسكرية مرتبطة مباشرة بالمسلمين. وتجمع الكثير من الروايات على أن الأصل يعود إلى معركة الكرزاة عام 489هـ / 1096م، حين انهزمت قوات المستعين بن هود حاكم سرقسطة أمام جيش مملكة أراغون بقيادة بيدرو الأول.
كانت هذه المعركة محطة مهمة في التاريخ المسيحي الأوروبي، وخاصة في الذاكرة الإسبانية، إذ مثّلت نقطة تحول في ما عُرف لاحقاً بـ “حروب الاسترداد” التي انتهت بطرد المسلمين من الأندلس وسقوط غرناطة عام 1492م.
أراغون.. أول من استعمل الرؤوس المقطوعة
ما تزال مقاطعة أراغون الإسبانية حتى اليوم تعتمد العلم نفسه الذي يحمل رموز الحكم الذاتي، ويظهر عليه رؤوس مقطوعة بوضوح لرؤوس مسلمين.
يتكوّن العلم من أربع رؤوس مقطوعة موزعة على أركان صليب أحمر، وهو ما تؤكده المصادر التاريخية التي تشير إلى أن علم أراغون القديم كان أحد أوائل الأعلام الأوروبية التي وضعت رؤوساً مقطوعة للمور على شعاراتها، وذلك منذ الفترة الممتدة بين عامي 905 و1499م.
ولأهمية أراغون التاريخية، خصوصاً بعد سيطرتها على عدة مناطق في البحر المتوسط مثل جزر البليار وسردينيا، فقد انتشرت هذه الرموز إلى مناطق أخرى ما تزال تعتمدها حتى اليوم.
كورسيكا.. لا شيء سوى الرأس
يحمل علم جزيرة كورسيكا الفرنسية رأساً مقطوعاً واحداً على خلفية بيضاء. وكانت النسخة السابقة من العلم تظهر الرأس معصوب العينين قبل أن تُزال العصابة بقرار حكومي عام 1980.
وتُرجّح روايات عدة أن هذا الرمز يعود إلى التأثير الأراغوني على الجزيرة. لكن هناك روايات أخرى تربط الرأس المقطوع بمعركة انتصر فيها سكان الجزيرة على مجموعة من المسلمين، فاعتمد قائدهم “غراتزاني” الرأس المقطوع كشعار لمقاتليه.
وقد تبنى زعيم القومية الكورسيكية باسكوال باولي هذا الرمز لاحقاً، وأصبح جزءاً أساسياً من هوية كورسيكا المعاصرة.
القصة تتكرر في سردينيا
تحمل سردينيا الإيطالية على علمها أربع رؤوس سوداء موزعة على أركان الصليب، وهو رمز يرتبط بشكل مباشر بعلم مملكة أراغون القديمة، التي كانت تضع رؤوساً داكنة البشرة بدل الرؤوس السوداء.
ورغم أن سردينيا لم تعتمد هذا العلم رسمياً إلا عام 1950، إلا أن ظهوره في سجلاتها يعود إلى فترات أسبق حين كانت الجزيرة تحت الحكم الأراغوني.
دماء تحت الرؤوس
في مدينة القنطرة شمال إسبانيا، وهي مدينة صغيرة في مقاطعة لاريوخا، يظهر شعار يضم رؤوس المسلمين المقطوعة بوضوح، بل إن الشعار يُظهر قطرات دم تحت كل رأس.
وترتبط الرؤوس بنهاية حكم سلالة بني قسي المسلمة، التي حكمت عدة مناطق في شمال إسبانيا خلال بداية الفتح الإسلامي، وانتهى وجودها في المنطقة في القرن العاشر الميلادي.
واللافت أن هذه الرموز لا تقتصر على المدن الصغيرة، بل تظهر أيضاً في مناطق أوروبية أخرى بعيدة تماماً عن العالم الإسلامي، مثل بعض المناطق في سويسرا وبلجيكا.








