ذكر غير واحد من علماء التاريخ والأخبار أن “أرميا” عليه السلام: نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقد قيل إنه عزير، وقيل :هو الخضر، والصواب أنه غيرهما.
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله: أرميا بن حلقيا: من سبط لاوي بن يعقوب؛ من أنبياء بني إسرائيل”
“هو أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْخَضِرُ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ “انتهى من “البداية والنهاية” (2/ 360).
قال علماء التاريخ وأخبار الأمم: أوحى الله تعالى إلى “أرميا” عليه السلام، حين ظهرت في بني إسرائيل المعاصي، وعظمت الأحداث فيهم، وقتلوا الأنبياء: أن اذهب إليهم وعظهم، وذكرهم بنعم الله عليهم، وعرفهم أحداثهم، وخوفهم بطش ربهم، في موعظة طويلة بليغة.
قالوا: “فَلَمَّا بَلَّغَهُمْ أَرْمِيَا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَسَمِعُوا مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ، عَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ وَقَالُوا: كَذَبْتَ وَعَظَّمْتَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، فَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ مُعَطِّلٌ أَرْضَهُ وَمَسَاجِدَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَمَنْ يَعْبُدُهُ حِينَ لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْأَرْضِ عَابِدٌ وَلَا مَسْجِدٌ وَلَا كِتَابٌ؟ لَقَدْ أَعْظَمْتَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَاعْتَرَاكَ الْجُنُونُ. فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وَسَجَنُوهُ
فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ، فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِجُنُودِهِ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ حَاصَرَهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ). فَلَمَّا طَالَ بِهِمُ الْحَصْرُ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَتَخَلَّلُوا الْأَزِقَّةَ، وَحَكَمَ فِيهِمْ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمُ الثُّلُثَ، وَسَبَى الثُّلُثَ، وَتَرَكَ الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ، ثُمَّ وَطِئَهُمْ بِالْخَيْلِ، وَهَدَمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَسَاقَ الصِّبْيَانَ، وَأَوْقَفَ النِّسَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ مُحْسَرَاتٍ، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَخَرَّبَ الْحُصُونَ، وَهَدَمَ الْمَسَاجِدَ، وَحَرَقَ التَّوْرَاةَ.
قال إسحاق بن بشر: قال وهب بن منبه: فلما فعل ما فعل قيل له: كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم، ويصفك وخبرك لهم، ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم، فكذبوه واتهموه، وضربوه، وقيدوه ، وحبسوه. فأمر بخت نصر فأخرج أرميا من السجن، فقال له: أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم؟ قال: نعم. قال: فإني علمت ذلك . قال : أرسلني الله إليهم فكذبوني. قال: كذبوك وضربوك وسجنوك؟ قال: نعم. قال: بئس القوم قوم كذبوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم ، فهل لك أن تلحق بي، فأكرمك وأواسيك، وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك. قال له أرميا : إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه، لم يخافوك ولا غيرك، ولم يكن لك عليهم سلطان. فلما سمع بخت نصر هذا القول منه، تركه، فأقام أرميا مكانه بأرض إيلياء. وهذا سياق غريب، وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة، وفيه من جهة التعريب غرابة .
بعث بختنصر لقتال بني إسرائيل بالشام
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كان بخت نصر أصفهبذا لما بين الأهواز إلى الروم; للملك على الفرس وهو لهراسب ، وكان قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بـ “الخنساء” ، وقاتل الترك ، وألجأهم إلى أضيق الأماكن، وبعث بخت نصر لقتال بني إسرائيل بالشام ، فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق وقد قيل : إن الذي بعث بخت نصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب ; وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم.
وعن سعيد بن المسيب، أن بخت نصر لما قدم دمشق ، وجد بها دما يغلي على كبا – يعني القمامة – فسألهم: ما هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر . قال : فقتل على ذلك سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا وهذا لا يصح ; لأن يحيى بن زكريا بعد بخت نصر بمدة، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم ، أو دم لبعض الصالحين، أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به.
تفرق بني إسرائيل في البلاد
قال هشام بن الكلبي : ثم قدم بخت نصر بيت المقدس ، فصالحه ملكها ، وكان من آل داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بخت نصر رهائن ورجع ، فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لأجل أنه صالحه ، فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم، فأخذ المدينة عنوة وقتل المقاتلة وسبى الذرية. قال: وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي، فأخرجه، وقص عليه ما كان من أمره إياهم ، وتحذيره لهم عن ذلك، فكذبوه وسجنوه، فقال بخت نصر: بئس القوم قوم عصوا رسول الله. وخلى سبيله وأحسن إليه. واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عز وجل مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا. فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة. فأخبرهم ما أمره الله تعالى به ، فقالوا : كيف نقيم بهذه البلدة وقد خربت، وغضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا. قال ابن الكلبي: ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد، فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادي القرى وذهبت شرذمة منهم إلى مصر فكتب بخت نصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه، فأبى عليه، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه، وسبى ذراريهم ، ثم ركب إلى بلاد المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية. قال: ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب، ومصر، وأهل بيت المقدس، وأرض فلسطين، والأردن وفي السبي دانيال. قلت: والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الأصغر لا الأكبر، على ما ذكره وهب بن منبه والله أعلم.
فائدة مهمة بشأن الأخبار الأنبياء
الإيمان بأنبياء الله ورسله عليهم السلام أصل من أصول الإيمان ، فلا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان برسل الله جميعا .
قال تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) البقرة/ 285.
وقال تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء/ 164
ويجب الإيمان بأن الأنبياء هم صفوة الله في خلقه ارسلهم الله لتعليم الناس وتبيلغ الدعوة ولهم صفات خاصة بهم, فيجب الإيمان بصفات الأنبياء الأساسية والتي تشمل الصدق، والأمانة، والفطنة، والتبليغ. بالإضافة إلى ذلك، يتميزون بصفات أخلاقية وعقلية فائقة، مثل الشجاعة، والصبر، والذكاء، والإحسان، بالإضافة إلى صفات خاصة مثل العصمة من المعاصي فلا تلتفت لدعوة بعض الجماعات التي تنسب للأنبياء فعل “المعصية الحقيقية”.
ثانيًا, لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ذكر اسم (أرميا)، ولا إثبات أنه من الأنبياء، وإنما هو شيء ذكره المؤرخون.
ومثل هذا لا يلزمنا تصديقه، لاحتمال أنه من أكاذيب أهل الكتاب، ولا يجوز لنا تكذيبه لاحتمال أنه نبي حقًّا، بل نتوقف في شأنه.
وقد روى البخاري (4485) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136”.
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (17364)، غير أنه ذكر في آخر الحديث آية أخرى فقال: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت/46.
قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” : “( لَا تُصَدِّقُوا أَهْل الْكِتَاب وَلَا تُكَذِّبُوهُم) أَيْ: إِذَا كَانَ مَا يُخْبِرُونَكُمْ بِهِ مُحْتَمَلًا؛ لِئَلَّا يَكُون فِي نَفْس الْأَمْر صِدْقًا فَتُكَذِّبُوهُ، أَوْ كَذِبًا فَتُصَدِّقُوهُ، فَتَقَعُوا فِي الْحَرَج.
وَلَمْ يَرِد النَّهْي عَنْ تَكْذِيبهمْ، فِيمَا وَرَدَ [أي: شرعنا] بِخِلَافِهِ، وَلَا عَنْ تَصْدِيقهمْ فِيمَا وَرَدَ شَرْعنَا بِوَفَائِهِ. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه .







