كشفت وثائق أميركية مسرّبة أن تعاوناً أمنياً وعسكرياً منظّماً جرى بصمت بين دولة الاحتلال الإسرائيلي ودول عربية، بينها السعودية والإمارات، طوال الأعوام الثلاثة الماضية وتخلّل حرب الإبادة على غزة، رغم الإدانات العلنية للعمليات الإسرائيلية.
وتوضح الوثائق التي نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، أن هذه الشبكة الإقليمية، التي نسّقتها القيادة المركزية الأميركية (سينتكوم)، انتقلت من مرحلة الاجتماعات الفنية إلى تبادل بيانات استشعار ورادارات وتمارين مشتركة.
وذلك على أن تُسند اليوم ترتيبات الهدنة الوليدة ومراقبتها ميدانياً، مع إرسال واشنطن قوة مساندة قوامها 200 جندي إلى دولة الاحتلال، واحتمال انضمام عناصر عربية في أدوار دعم غير قتالية.
وبحسب التسريبات، احتضنت البحرين ومصر والأردن وقطر اجتماعات تخطيطية متكررة جمعت ضباطاً إسرائيليين بنظراء عرب، فيما صُنّفت الكويت وعُمان “شريكين محتملين”.
ويكشف ملف لوجستي أن وفداً إسرائيلياً سافر مباشرة إلى قاعدة العديد بقطر في مايو 2024 لتفادي الظهور العلني، ما يعكس حساسية سياسية قصوى لدى العواصم المشاركة.
وتؤكد مطابقة هذه التفاصيل مع سجلات للبنتاغون وبيانات تمارين رسمية صحة الخطوط العريضة للشبكة التي وصفتها سينتكوم باسم “الهيكل الأمني الإقليمي”.
السعودية والإمارات في قلب المعادلة
تضع الوثائق الدولتين الخليجيتين الثقيلتين، الرياض وأبوظبي، في قلب هذه المنظومة.
فالسعودية شاركت، وفق عرض استخباري مشترك عام 2025، في إحاطات أمنية مع مسؤولين أميركيين تناولت الساحات الإقليمية من سوريا إلى اليمن، بما فيها نشاط الحوثيين وفلول تنظيم الدولة.
في حين ورد اسم الإمارات ضمن لائحة الدول الست التي انخرطت في تدريبات وأنظمة ربط واستطلاع، مع هدف معلن هو بناء درع جوي وصاروخي يتصدى لتهديدات إيران وجماعة الحوثي.
وتعكس هذه المقاربة الأمنية مساراً براغماتياً يغلّب المصالح الدفاعية على الحسابات السياسية الآنية، رهاناً على أن التعاون الهادئ قد يمهّد لاحقاً لمسارات سياسية أقل كلفة داخلية.
ويوضّح مسار بناء “الدرع” كيف انتقلت الخطة من الورق إلى التشغيل: ربطت سينتكوم منذ 2024 عدداً من الشركاء بأنظمة أميركية لتبادل الرصد الجوي، ومنحت ست دول صورة جوية جزئية في الزمن الحقيقي، مع قنوات اتصال آمنة مشتركة.
عملياً، يتيح ذلك تنسيق الإنذارات المبكرة وتمارين اعتراض المسيّرات والصواريخ الباليستية، ضمن شبكة تقودها واشنطن وتشارك فيها تل أبيب وشركاء عرب، بينهم السعودية والإمارات.
لكن اختبار الثقة الأبرز انفجر عندما ضربت طائرات إسرائيلية الدوحة في 9 سبتمبر. الهجوم، الذي أُقرّ به لاحقاً عبر اعتذار علني من بنيامين نتنياهو لقطر بوساطة أميركية، كشف ثغرات هذه المظلة: لا شبكة الإنذار الأميركية ولا الرادارات القطرية أنذرت بالضربة، فيما بدت واشنطن أمام حرج “التواطؤ أو التقصير” في نظر أطراف عربية.
هذا الشرخ، وفق تقدير خبراء، سيترك أثره على أي محاولة لتعميق الدمج الأمني، بما في ذلك مع الرياض وأبوظبي اللتين تتقاطع مصالحهما مع قطر في هذه المنظومة وإن اختلفت الحسابات السياسية.
بين العلن والسر… وكيف ينعكس على الهدنة
تأتي هذه التسريبات تزامناً مع إعلان المرحلة الأولى من إطار اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يتضمن تبادلاً للأسرى وانسحابات جزئية وإسناداً أميركياً ميدانياً، فيما تتحدّث مصادر عن انضمام عناصر من دول شاركت في التعاون الأمني إلى جهود الدعم والتنظيم اللوجستي للهدنة.
ورغم بيانات عربية قاسية وصفت حرب غزة بالإبادة ونددت بسياسات التجويع والتهجير، فإن الوثائق تبيّن أن التنسيق العسكري لم يتوقف، بل اتسع تحت سقف “سينتكوم”، مع هدف مركزي: احتواء إيران وشبكاتها، وضبط مخاطر التوسع الإقليمي للحرب.
هنا تحديداً يبرز دور السعودية والإمارات كلاعبين قادرين على توفير غطاء تمويلي ودبلوماسي وحلول أمنية تقنية، من دون الانزلاق إلى إرسال قوات تقاتل على الأرض في غزة.
وفي كواليس بناء “اليوم التالي”، تُعوّل واشنطن على شراكات خليجية لتمويل الإعمار وتدريب أجهزة شرطية فلسطينية جديدة، وربما المشاركة في قوة استقرار متعددة الجنسيات.
غير أن حسابات العواصم واضحة: دعم سياسي ومالي وتقني نعم؛ نشر قوات برية في بيئة معقدة ومتحركة… على الأرجح لا. هذا الحذر ينسجم مع تقديرات أكاديمية ترى أن دول الخليج تخشى انفلات إسرائيل إذا غابت القيود، لكنها لا تستطيع فك ارتهانها الأمني للولايات المتحدة، ولا تجاهل تهديد إيران لمجالاتها الحيوية.
لماذا اختارت الرياض وأبوظبي هذا المسار؟
ثلاثة دوافع متداخلة تفسّر المسار السعودي والإماراتي:
أولاً، هندسة مظلة ردع ضد إيران والمسيّرات والصواريخ العابرة للحدود، وهو تهديد مباشر للبنية التحتية للطاقة والموانئ. وجود إسرائيل في هذه المظلة يضيف خبرات ونُظماً قتالياً مجرّبة، فيما يضمن الغطاء الأميركي قيادة العمليات وحماية سياسية.
ثانياً، إدارة “الهدنة الموسّعة” في غزة عبر أدوات مراقبة واستشعار واتصال تملكها العواصم الخليجية، من دون أثمان داخلية باهظة. المشاركة التقنية تسمح بالتأثير في قواعد الأمن والمرور والمعابر، وتثبيت دور في ترتيبات ما بعد الحرب.
ثالثاً، الرهان على أن التعاون الأمني الصامت قد يفتح لاحقاً مسارات سياسية أقل كلفة، على قاعدة “الأمن أولاً ثم السياسة”، وهو درس من حقبة ما بعد اتفاقات أبراهام وتوسيعها. لكن هذا الرهان يظل هشاً إذا تكررت صدمات الثقة على شاكلة ضربة الدوحة.
وبالمحصلة تضع التسريبات السعودية والإمارات في موقع الشريك المؤثر داخل هيكل أمني إقليمي قيد التشكل، تقوده واشنطن ويشارك فيه الإسرائيليون ودول عربية عدة، بزعم خدمة هدف مزدوج: ردع إيران وإدارة ارتدادات حرب غزة.