على مدى سنوات، بنت أبوظبي صورة عالمية لامعة بميزانيات ضخمة لحملات دعائية ومؤتمرات وصور جذابة. لكن الصور اللامعة لم تنتصر على الحقائق المتراكمة: فضائح مالية، شبكات استغلال إنساني، وتيارات سياسية أثّرت في مصداقية الدولة داخليًا وخارجيًا.
التحوّل صار واضحًا: ما كان يُروّج له كـ”نموذج استقرار” في الإمارات صار يُقابَل بشكوكٍ واتهاماتٍ مضمرةٍ وصريحة في ظل توالي الفضائح في شتى المجالات.
فشل الدعاية كغطاء دائم
الدعاية قد تشتري صورًا وترويجًا قصير الأمد، لكنها لا تشتري ثقة المجتمعات ولا تقوّي مؤسسات قائمة على القصور. عندما تتكرر حوادث أو تحقيقات تظهر تباينات بين الإعلان والواقع، يتحول الجمهور من متلقٍ مسرور إلى ناقد متشكك.
فالنفقات البراقة على الفعاليات لا تعوّض عن فقدان الشفافية أو عن غياب آليات محاسبة فعّالة.
سوق المال والعقار كانا من أعمدة رواية «المدينة الآمنة للاستثمار»، لكن حالات الاحتيال والصفقات المشبوهة جعلت المستثمر الحذر يعيد حساباته.
تحوّلت بعض الصفقات إلى مناطق رمادية تُستغل لغسل رؤوس أموال أو لإخفاء تدفقات مشبوهة. النتيجة: ثقة المستثمرين تتآكل، وتزداد مخاطرة الاعتماد على سمعة مبنية على رواج سطحي لا على ضوابط مؤسسية راسخة.
استغلال البشر وانهيار الشرعية الأخلاقية
الأكثر حساسية هو ملف الاستغلال البشري: قصص نساء ومهاجرين تعرضوا لشكل من أشكال الاستغلال والعمل القسري أو الظروف اللاإنسانية أصبحت تُناقَش بصوت عالٍ في بلدان المصدر.
هذه القضايا لا تُضر فقط بصورة الدولة بل تفتح ملفًا أخلاقيًا يصعب تجاوزه من خلال بيانات رسمية أو إصلاحات لفظية فقط. الجمهور العربي معني بشكل خاص بهذه الملفات؛ لأن حساسية القضايا الاجتماعية والأخلاقية تعمّق الشعور بالغضب والخذلان.
كما أن التحالفات والتحركات الدبلوماسية التي قد تُقدّم كإنجازات اقتصادية وسياسية تحمل ثمنًا رمزيًا ثقيلًا. القرب من أطراف مثيرة للانقسام في العالم العربي أعاد تعريف موقع الإمارات في وعي الجمهور الإقليمي: لم تعد مجرد شريك اقتصادي، بل لاعب سياسي يقود إلى إعادة تقييم الولاءات والشرعية الرمزية.
هذا التحوّل لا يختزل في لعبة مصالح فقط؛ بل يتعداها إلى مشاعر جماعية لا تُقاس بالأرقام.
سوق العقار و”الفخ المالي”
دبي التي كانت تُسوّق كملاذ عقاري تحوّلت لوعاء لتجارة القِيم والمظاهر، وفي بعض الحالات إلى فخٍّ للمستثمرين الذين وثقوا أكثر من اللازم. عمليات بيع وشراء وهمية، صفقات عبر أطراف مجهولة وشبكات تُستغل لإخفاء أموال—كلها عوامل جعلت من السوق الساخن ساحة للاحتيال وسببًا إضافيًا لتآكل الثقة.
والأخطر على المدى الطويل ليس فسادًا ماليًا أو سوء إدارة فقط، بل انفصال يُشعر به الجمهور بين ما تُعلن عنه الدولة وبين قيم المجتمع العربي والإسلامي.
عندما يشعر الناس بأن الجهد الدعائي غطى على تراجعات في الالتزام بالقيم أو تحوّل الولاء السياسي لمصالح أخرى، تنهار الصورة الرمزية بسرعة أكبر من انهيار أرقام السياحة أو الاستثمار.
ردود الفعل: إجراءات جزئية لكنها غير كافية
لا يمكن تجاهل أن هناك محاولات إصلاح—تشديد قواعد، بيانات استنكارية، وإجراءات قضائية متفرقة.
لكن المشكلة في التوقيت والعمق؛ إذ تبدو الإجراءات أحيانًا ردود فعل على فضائح مُكشوفة لا سياسات استباقية طويلة الأمد تُعيد بناء الثقة. الإصلاح الحقيقي يتطلّب مؤسسات مستقلة ومساءلة فعلية، لا تغييرات شكلية أو حملات تبرير.
أمام الإمارات خياران رئيسيان: إما الاستمرار في صوغ واجهة مؤثرة عبر الدعاية، وهو طريق مؤقّت سيؤدي إلى تراكم أزمات جديدة، أو الانخراط في إصلاحات عميقة: حوكمة شفافة، آليات رقابية فعّالة، حماية أوسع لحقوق العمال والمهاجرين، ومراجعات حقيقية للسياسة الخارجية بحيث تراعِي الأبعاد الرمزية والإقليمية. هذا الخيار الثاني هو الوحيد القادر على استعادة مصداقية مستدامة.
فالصور اللامعة والفعاليات البراقة كانت تعطي الدولة مسوّغًا ظاهريًا للنجاح. لكن السمعة الحقيقة تُبنى عبر مؤسسات قوية، عدالة اقتصادية، واحترام حقوق الإنسان.
وإذا لم تتعامل قيادة الإمارات مع الأسباب الجذرية بشكل علني وجذري، فستستمر التحولات في وعي الشعوب والمستثمرين وستصاحب اسم الإمارات سماتٍ لا تُنطبق بالضرورة على واقعها المؤسسي العميق—وهو ما دفع التحوّل من ابتكار واستقرار إلى غسيل أموال واستغلال وتطبيعٍ بلا شرعية شعبية.