منذ توقيع «اتفاقيات إبراهيم» جعلت أبوظبي من التطبيع مع إسرائيل أداة مركزية في مشروعها الاستراتيجي، فحولت العلاقات إلى رافعة نفوذ اقتصادية وأمنية وسياسية، مع ثمن معنوي دفعته القضية الفلسطينية وسكان غزة.
ولم تولّد هذه المعادلة علاقات ثنائية فقط، بل شبكة تأثير تُستخدم الآن لصياغة سرديات ما بعد الحرب وتكريس نتائجها على الأرض.
,ما نراه اليوم ليس مجرد تعاون دبلوماسي تقليدي بل عمل ممنهج لاختبار حدود القبول العربي بما يُعرض على الطاولة: تقنين غياب البُعد السياسي للقضية الفلسطينية، تفريغ المقاومة من أدواتها، وتطويق أي أفق سيادي حقيقي للفلسطينيين.
فالإمارات أيّدت، وضغطت، وشاركت بصياغة عناصر خطط دولية تراعي الأمن الإسرائيلي أولًا وتعرض للفلسطينيين ما تبقّى من فتات سياسي وإنساني. هذه ليست «تسوية» لأنها لا تبني مستقبلًا؛ إنها تسوية على الأطلال.
نشر التطبيع والتحالف مع تل أبيب
على الأرض الدبلوماسية بدا الدور الإماراتي واضحًا: جولات مكوكية، زياراتٍ مفاجئة إلى عواصم محورية، ورسائل مباشرة مفادها أن الرجوع إلى واشنطن وإسرائيل هو الخيار العملي الوحيد.
والظهور كوسيط أو «مُرَتّب» لمفاوضات ما بعد الصراع لم يكن بريئًا؛ بل هو محاولة لتموضع أبوظبي كمنقذ إقليمي يضمن مقعدًا في رسم مصائر غزة بعد التدمير.
زيارة مسئولون في الإمارات إلى عواصم عربية وازنه بعد اعتداءات إقليمية، وتنسيق المواقف الخليجية، تظهر أن دور القيادة الإماراتية لم يقتصر على تأييد إسرائيل بل تعداه إلى «كتابة» شروط القبول العربية بما يُقدّم.
الجزء الأخطر في هذه السياسة هو العمل على «فصل» إعادة الإعمار عن الحل السياسي. بلغة بسيطة: إعادة بناء المباني لا تعني إعادة الحقوق ولا تعني استعادة كرامة شعب أزيلت أرضه وحُرمت مؤسساته.
إذًا حين تسوّق أبوظبي لخطط تُقدّم إعادة الإعمار مقابل تقويض السُلطة الفلسطينية أو تحييدها، فإنها تساهم عمليًا في تثبيت واقع احتلالي مُعادٍ للحقوق، وتُسهل عملية إعادة تشكيل غزة بما يخدم حسابات أمنية وسياسية إقليمية ودولية.
التطبيع بالترويج الإعلامي
استثمرت أبوظبي شبكات إعلامية ودبلوماسية لتهيئة الرأي العام العربي والغربي لقبول «خطة منقوصة» تُغلق أفق الدولة الفلسطينية وتُبقي السيطرة الأمنية الإسرائيلية محتملة إلى أجل غير مُحدد.
وبحسب مراقبين فإن هذه الحملات لم تكن مجرد ترويج؛ بل كانت جزءًا من عمل منظّم لإعادة تعريف معنى «الهدنة» و«الإعمار» بحيث يصبحان بديلاً عن الحل السياسي.
النتيجة: تراجع سقف المطالب العربية الفاعلة وتحويل النقاش من الحقوق والسيادة إلى إدارة الأزمة الإنسانية تحت مظلة دولية تراقب وتُشرّط.
الإمارات، ببساطة، لعبت دور السفير غير الرسمي لمطالب إسرائيل أمام العواصم العربية — لا لأن مصلحة الفلسطينيين كانت في قلب سياساتها، بل لأن ثمن ذلك موازٍ للمكاسب الاستراتيجية والاقتصادية التي رُفعت لها.
وهذا ما يجعل دور بن زايد «مثيرًا للريبة»: هو لم يتحدث باسم العرب فلا هو مع الشعب الفلسطيني، ولا هو ضد مصالح شركاء أبوظبي الاستراتيجيين. بل صار وسيطًا لصياغة قبول يُكسب إسرائيل مكاسب سيادية مع دفعٍ عربي رسمي نحو تأييد حلّ يكرس هذا الواقع.
وحين تُقدّم دولة نفطية ثِمنَ سمعتها وقيمها لإدماج إسرائيل في منظومتها الاقتصادية والأمنية، فإنها لا تساهم في «حلّ» بقدر ما تُسوّق لمرحلة ما بعد القضاء على أي طموح فلسطيني حقيقي.
وقد اختارت الإمارات طريق النفوذ على حساب العدالة؛ وبهذا كانت إحدى محطات تهيئة العالم لخطط تُشرعن ما حدث في غزة — ولها أن تتحمّل المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن ذلك.