في السنوات الأخيرة، لم تعد أدوات النفوذ الإماراتي محصورة في المال السياسي الإقليمي أو في تمويل الميليشيات المحلية فحسب، بل امتد تأثيرها إلى الساحة الأوروبية عبر الاستثمار بموجات اليمين المتطرف وصعود خطاب الإسلاموفوبيا.
ولعلّ منصة Visegrád 24، التي اشتهرت بالترويج لخطاب الكراهية ضد المسلمين والدفاع غير المشروط عن إسرائيل، أصبحت نموذجًا واضحًا لهذا التوظيف الممنهج الذي يقوده محمد بن زايد في إطار صراعاته الإقليمية والدولية.
ولم تكتفِ منصة Visegrád 24 برسم صورة نمطية سلبية عن المسلمين في أوروبا، بل كرست خطابًا يقوم على فكرة “الخطر الإسلامي” لتغذية مزاج شعبي يميني متطرف، يخدم دوائر سياسية طالما استفادت من صناعة الخوف والتعبئة ضد الآخر.
اليوم، يُعاد توجيه هذه الآلة الإعلامية نحو هدف جديد: ضرب صورة الجيش السوداني في المحافل الأوروبية وتشويه علاقاته الدولية، بالتوازي مع استهداف الدور التركي وسلاحه الذي غيّر معادلات التوازن في أكثر من ساحة صراع.
الإمارات وتمويل التطرف الأوروبي
ليس جديدًا أن تتورط أبوظبي في رعاية خطاب اليمين المتطرف في أوروبا.
فقد سبق أن كشفت تقارير عن تمويل مباشر لزعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان بثمانية ملايين يورو، في محاولة للتأثير على المشهد السياسي الفرنسي لصالح أجندات معادية للمسلمين واللاجئين.
اليوم، يجري تكرار النهج ذاته ولكن بأساليب أكثر تعقيدًا لتفادي الفضيحة التي هزت صورة لوبان آنذاك.
تمويل الإمارات للمنصات المتطرفة لم يعد يُدار عبر التحويلات المباشرة، بل عبر مسارات ملتوية تشمل:
شركات علاقات عامة على صلة باللوبي الصهيوني، تتولى إنتاج المحتوى وتوزيعه بصفة “مهنية”.
مؤسسات وجمعيات واجهة تُموّل مشاريع بحثية ظاهرية، بينما تُسند أعمال النشر لمنصات متطرفة بعينها.
حملات إعلانية ورعايات مدفوعة تُظهر الدعم وكأنه نشاط تسويقي عادي عبر الشبكات الرقمية.
قنوات مالية وسيطة تشمل قروضًا أو تحويلات عبر بنوك طرف ثالث وشركات خدمات مالية في روسيا ودول أخرى.
السودان ساحة للحرب بالوكالة
لا يمكن فصل هذا التحرك الإعلامي عن الواقع الميداني في السودان. فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وميليشيا “الدعم السريع”، اتُّهمت أبوظبي مرارًا بتمويل ودعم قوات الدعم السريع، التي ارتكبت مجازر بحق المدنيين ودمّرت البنية التحتية الهشة أصلًا.
وتقوم هذه الاستراتيجية المزدوجة على دعم ميليشيا ميدانية بالسلاح والمال، ثم استخدام المنصات الإعلامية لتشويه صورة خصومها (الجيش السوداني) وتبرير جرائم الميليشيا عبر تحويل الأنظار نحو “خطر الإسلاميين” أو “النفوذ التركي”.
بذلك تتحول الحرب إلى معركة سرديات في العواصم الأوروبية بقدر ما هي صراع دموي على الأرض.
تركيا في مرمى الاستهداف
جزء أساسي من هذا التموضع الإعلامي يتركز على تقويض صورة تركيا. فالتجربة التركية في تطوير الصناعات الدفاعية، لا سيما الطائرات المسيّرة التي لعبت دورًا حاسمًا في ليبيا وأذربيجان وأوكرانيا، أزعجت المحور الإماراتي–الإسرائيلي.
لذلك، فإن أي منصة يمينية متطرفة تجد في مهاجمة تركيا فرصة لتقديم خدمات مزدوجة: خدمة أجندة أبوظبي وتغذية الإسلاموفوبيا التي تتبناها بطبيعتها.
وأخطر ما يكشفه هذا المسار هو أن الإعلام المتطرف تحوّل إلى أداة حرب بالوكالة. لم يعد الأمر مجرد حملات تشويه تقليدية، بل صار استثمارًا ممنهجًا في خطاب سياسي يضرب خصوم الإمارات من الداخل والخارج.
وبذلك يتم ربط الجيش السوداني بالإسلاميين لتشويه صورته، فيما تُغسل جرائم قوات الدعم السريع بغطاء إعلامي من خارج السودان.
هذا النمط من إدارة الصراعات يعكس عقلية تقوم على:
تصدير المعارك إلى منصات الرأي العام الغربي.
تحويل الإسلاموفوبيا إلى أداة سياسية متعددة الاستخدامات.
بناء تحالف غير معلن بين أبوظبي واليمين المتطرف الأوروبي، يلتقي عند نقطة مركزية: معاداة المسلمين، وتحصين إسرائيل من النقد.
وبالمحصلة فإن تورط الإمارات في تمويل اليمين المتطرف الأوروبي عبر منصات مثل Visegrád 24 ليس مجرد حادثة عرضية، بل يعكس استراتيجية أوسع لإدارة الحروب بالوكالة: تمويل ميليشيات على الأرض، وتوظيف إعلام متطرف في الخارج لتشويه الخصوم وتبييض الحلفاء.
بهذا، يتحول السودان إلى ساحة اختبار لمعادلة جديدة: حيث يختلط الدم بالسردية الإعلامية، وتتقاطع المصالح الإماراتية مع أجندات اليمين الأوروبي في حرب لا تقتصر على الخرطوم وحدها، بل تمتد إلى بروكسل وباريس وبرلين.