ينقسم المراقبون والرأي العام العربي بين مؤيد متفائل بالاعترافات الدولية المتتالية بالدولة الفلسطينية، باعتبارها توطئة ضرورية، بل وقفزة على طريق الانتقال بهذه الدولة من “حبر القرارات” إلى أرض الواقع، وآخر متحفظ ينحو للتشاؤم، ينظر للمسألة كخطوة رمزية للغاية، متأخرة كثيرا، لن تحدث فرقا في حياة الفلسطينيين.
والأهم أنها تأتي تعويضا عن عجز المجتمع الدولي عن وقف المذبحة، وكبح الاستباحة الإسرائيلية، وإبراء الذمة والضمير أمام مشاهد القتل والترويع والتجويع المستمرة لما يقرب من عامين.
لماذا لا نفرط في التفاؤل؟
في ظني، أن “الحقيقة” تقع في منزلة بين هاتين المنزلتين، وقد تكون بشكل من الأشكال حاصل جمعهما معا.
فلا يمكن لعاقل أن يُفرط بالتفاؤل حيال النتائج والتداعيات المترتبة على “تسونامي” الاعترافات بالدولة الفلسطينية، والذي جرف في طريقه مؤخرا ثلاثا من دول التحالف الأنجلو-ساكسوني: بريطانيا، أستراليا وكندا. ويمكن أن نعزو هذا الحذر إلى أربعة أسباب رئيسة:
1. قليل جدا ومتأخر جدا (Too little, Too late)
“قليل جدا”، بمعنى أن الاعتراف لم يقترن بإجراءات عقابية صارمة على إسرائيل، أقله لوقف “المقتلة” المستمرة منذ عامين، ووقف الزحف الاستيطاني المنفلت من كل عقال، ووضع حد لعربدة الدولة المارقة في هذا الإقليم، بل وفي العالم بأسره.
و”متأخر جدا”، لأن الاعتراف بدولة الفلسطينيين جاء بعد أكثر من مئة عام على وعد بلفور المشؤوم، وبعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على قيام إسرائيل ضاربا عرض الحائط بخرائط التقسيم والقرار 181، وبعد أكثر من نصف قرن على احتلال “إقليم هذه الدولة”: الضفة، القطاع والقدس الشرقية، وبعد أكثر من ثلث قرن على بدء مسار مدريد وإبرام اتفاق أوسلو.
والأهم من كل ذلك أن هذه الاعترافات تتوالى فيما حكومة اليمين الفاشي في تل أبيب تقضي على نحو منهجي ومنظم على أية فرصة لقيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة، دع عنك أن تكون سيدة ومستقلة.
ويتصدر “التهجير القسري” جدول أعمال هذا الكيان، ليس في غزة فحسب، وإنما في الضفة والقدس كذلك. أركان الدولة ثلاثة كما يقول طلاب العلوم السياسية: الأرض (الإقليم)، الشعب، والنظام السياسي. وإسرائيل لا تترك لحظة تمر دون العمل على تقويض هذه الأركان مجتمعة.
2. اعترافات مشروطة
كثرة من هذه الاعترافات جاءت محمّلة بالشروط المسبقة:
-
- منهم من اقترح إصلاحات جذرية في بنية وهياكل السلطة، بما يعزز دورها الأمني خدمة لإسرائيل واستهدافا لكل أشكال مقاومة الاحتلال.
-
- منهم من اشترط إنهاء حماس وإخراجها من الحكم والسياسة والجغرافيا.
-
- آخرون زجّوا بقضية الرهائن العشرين كشرط مسبق لتجسيد الاعتراف، متجاهلين حياة أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني يذوقون العذاب والإذلال والتجويع في سجون الاحتلال.
خلاصة هذه الاعترافات، بعضها على الأقل: نمنحكم دولة مقابل إعادة صياغة نظامكم وإنسانكم وتاريخكم وذاكرتكم ومستقبلكم.
3. انعكاس للرأي العام العالمي
مسلسل الاعترافات ما كان ليستمر لولا الانقلاب في الرأي العام العالمي على صورة إسرائيل “المتخيّلة” وسرديتها المبنية على الخرافة والأسطورة.
هذه التحولات تعكس براغماتية الأحزاب الحاكمة في هذه الدول، وحساباتها الانتخابية، أكثر من كونها صحوة ضمير حقيقية. لكنها تظل مهمة لأنها تكسب ديمومة مستندة إلى قواعد شعبية راسخة وجيل جديد متحرر من سطوة “التفوق الأخلاقي” لإسرائيل وعقدة “اللاسامية”.
4. غياب الحدود والسيادة
كثرة من هذه الاعترافات لم تقترن بتعريف حدود فلسطين وفق “إعلان الاستقلال” عام 1988 ولا بموقف من مستقبل الاستيطان القائم والقادم الذي يلتهم أراضيها.
في النهاية، يمكن تمرير فكرة “الدولة” منقوصة السيادة والجغرافيا، حتى على بعض أوساط اليمين الإسرائيلي والأميركي: دولة معازل على جزء من الضفة الغربية، تضم العدد الأكبر من السكان، والمساحة الأصغر من الأرض، دون المساس بفكرة “العاصمة الأبدية الموحدة” لإسرائيل.
نعم هناك فرصة، ولكن!
المتفائلون يذهبون حد وصف الأمر بـ”اليوم التاريخي”، معتبرين أن القضية الفلسطينية لن تظل كما كانت. حججهم:
-
- ترفيع مكانة فلسطين من مجرد بعثات وممثليات إلى سفارات بكامل الامتيازات.
-
- التحول من “شعب تحت الاحتلال” إلى “دولة تحت الاحتلال”، وإن كان ذلك قد لا يغير الواقع كثيرا.
-
- تعميق عزلة إسرائيل وحاميتها الولايات المتحدة، بما يدفعهما عاجلا أو آجلا للانحناء أمام العاصفة الأممية.
لكن الحقيقة أن الفضل الأول والأكبر يعود لغزة، التي صمدت لعامين في ظروف يعجز عنها الجبال. يعود لدماء ربع مليون شهيد وجريح ومفقود وأسير. يعود لمقاومين رفضوا رفع الراية البيضاء، وظلوا على عهد الصمود والبطولة رغم طوفان النار والخلل الفادح في موازين القوى.
التحدي الفلسطيني الداخلي
الفرصة ستضيع إذا ظل النظام الفلسطيني المترهل عاجزا. السلطة بنهجها الإقصائي، ورهاناتها المفرطة على الخارج، لا تساعد على اغتنام السانحة.
حماس أيضا مطالبة بمراجعة شاملة بعد الحرب، لتحديد دورها وصورتها في المرحلة المقبلة. هذه مسؤولية تتجاوز مستقبل الحركة لتطال مستقبل القضية الفلسطينية برمتها.
الاستحقاق العربي والإقليمي
على العرب استثمار هذه الصحوة الدولية بخطوات عملية:
-
- إنهاء مسار التطبيع المجاني.
-
- إغلاق الأجواء أمام الطيران الإسرائيلي.
-
- فرض العقوبات والمقاطعة على كيان الفصل العنصري والإبادة.
ليست المهمة التباهي بأى العواصم ساهمت أكثر في الاعترافات، بل تنسيق الجهد لعزل إسرائيل ومحاسبتها.
في الساحة الأممية
الاستثمار في هذه الفرصة يبدأ من كسر مفاعيل الفيتو الأميركي، واللجوء للجمعية العامة عبر “الاتحاد من أجل السلام”.
كما يجب الدفع نحو قرار يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وإدراج إسرائيل في خانة نظام الأبارتايد، تماما كما حدث مع جنوب أفريقيا، بل وبصورة أكثر توحشا.