حين تبجّح نتنياهو قائلاً: «أريد أن يعرف الجميع ما هو مكتوب في كتبنا… سأطارد أعدائي ولن أعود حتى أفنيهم»، لم يكن يتحدّث مجازاً ولا يطلق شعارات فارغة. بل كان يستحضر الشيفرة الحربية المغروسة في نصوص «التوراة» المحرّفة والمسطّرة في التلمود؛ نصوص تُشرعن الإبادة والاستعمار والإرهاب باعتبارها أوامر إلهيّة.
إنّ عقيدة الحِرْم (ḥērem) في «التوراة» المشوّهة لا تحتمل لبساً: «لا تُبقوا حيّاً كلّ نسمة، بل حَرِّموهم تحريماً…» (سفر التثنية 20:16). «لا تُقِم معهم عهداً ولا تشفق عليهم» (تثنية 7:2). «حرّموا المدينة للرب، وقتلوا بالسيف كلّ ما فيها من رجل وامرأة، من شاب وشيخ، وحتى البقر والغنم والحمير» (يشوع 6:21). وفي صموئيل الأول 15:3 يُؤمر شاول بإبادة عماليق: «من رجل إلى امرأة، من طفل إلى رضيع، ومن ثور إلى شاة، ومن جمل إلى حمار». أمّا سفر العدد (31:17–18) فيأمر بقتل جميع الصبيان وكلّ امرأة عرفت رجلاً، مع استبقاء العذارى سبايا للاستعباد. هذه ليست أمثالاً رمزية ولا مواعظ روحية؛ بل هي مخططات للإبادة الجماعية والاسترقاق الجنسي — وهي الجرائم نفسها التي تُتّهم الدولة الصهيونية بارتكابها في غزة اليوم.
أوّلاً: شيفرة الحرب في «الحِرْم»
في «التوراة» المحرّفة يهيمن مبدأ واحد على «شريعة الحرب»: الحِرْم — أي الإبادة الشاملة للعدوّ، وتُترجم أحياناً بـ«التحريم» أو «التكريس للدمار».
«لا تُبقوا حيّاً كلّ نسمة… حرّموهم تحريماً كما أمركم الرب إلهكم» (تثنية 20:16–18).
هذا ليس ديناً ولا روحانية، بل دليل إجرامي يُشرعن الإبادة. إنّه نصّ يقرأ كجريمة حرب قبل أن تُصاغ قوانين الحرب في العصر الحديث. ومع ذلك، يُلوّح به قادة الكيان الصهيوني اليوم كترخيص سماوي لإحراق غزة وتسوية جنين وتجويع أطفال رفح. فابتسامة نتنياهو ليست سياسة حديثة، بل هي إحياء للتثنية بأحدث الطائرات الحربية.
«متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض… تحرّمهم تحريماً، لا تُقِم معهم عهداً ولا تشفق عليهم» (تثنية 7:1–2).«حرّموا المدينة للرب، وقتلوا بالسيف كلّ ما فيها…» (يشوع 6:21).«الآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كلّ ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً…» (صموئيل الأول 15:3).«فاقتلوا كلّ ذكر من الأطفال، وكلّ امرأة عرفت رجلاً، وأما كلّ الطفلات العذارى فأبقوهن لكم أحياء» (العدد 31:17–18).
هنا يتجلّى القبح بأبشع صوره: قتل الأطفال بإيعاز نصّي، مقروناً باستبقاء العذارى للاستعباد الجنسي. فإذا جرّدنا النص من غلافه الديني لم يبقَ سوى تشريع للاتجار بالبشر والإبادة. أفليس من العجيب أن مشهد إحراق المستوطنين لحقول الزيتون، وقصف الجنود للمخيّمات، ليس سوى صدى لنفس الشيفرة: «طهّر وامتلك»؟
ثانياً: من النص إلى القانون — كيف قنّن الحاخامات الإبادة
لم تُمحَ هذه الأوامر مع مرور الزمن، بل تمّت «مأسستها»:
- في التلمود (سنهدريم 20ب) ثلاث وصايا قومية: تنصيب ملك، إبادة عماليق، وبناء الهيكل.
- موسى بن ميمون (مِشنه توراه: أحكام الملوك والحروب 5:1) فرّق بين «حرب الفريضة» (ومنها إبادة عماليق) و«حرب الإباحة» (للتوسّع)، الأولى لا تحتاج موافقة، فهي واجب أبدي.
- مشناه سوتاه 8 تنظّم من يُعفى من القتال، لتُقدّم الحرب لا كفشل أخلاقي بل كواجب مقدّس.
إنّ ما يُدفن في ديانات أخرى كعار تاريخي، يُقدَّس هنا كوصية أبدية. ولهذا يقف اليوم حاخامات رسميون في المستوطنات ويعلنون: «الفلسطينيون هم عماليق»، فيحوّلون نصوص الإبادة إلى برنامج يومي للقتل.
اقتباس بارز:«إبادة عماليق» ليست مجرد آية، بل فريضة فقهية مغروسة في التشريع التلمودي.
ثالثاً: شبح عماليق — الفلسطينيون أعداء نصّيّون
لقد تحوّل «عماليق» إلى أخطر أرشيف رمزي في الخطاب الصهيوني. فبعد أن اختلف الحاخامات قروناً حول ذريته، استقرّ المستوطنون الجدد على أن «عماليق» اليوم هم الفلسطينيون.
الحاخام شموئيل إلياهو، الحاخام الأكبر لمدينة صفد، دعا علناً إلى حرب لا رحمة فيها، مؤكداً أن الفلسطينيين هم عماليق. قادة المستوطنات هتفوا: «الفلسطينيون هم عماليق!» وكأنها كلمة السر للإبادة. بل إنّ كتيّبات عسكرية وُزّعت على الجنود أثناء عدوان غزة تسند عمليات القتل إلى هذه العقيدة، في تكرار فجّ لتعاليم الإبادة النصّية على أرض الواقع.
رابعاً: إسرائيل الكبرى — من النص إلى الأيديولوجيا
تباهي نتنياهو لا ينفصل عن المخطّط الأوسع: إسرائيل الكبرى.
- «خطة عوديد ينون» (1982) دعت إلى تفتيت الدول العربية إلى دويلات طائفية تضمن هيمنة الصهاينة.
- متطرفون معاصرون كأفي ليبكين يتوهّمون حدوداً تمتدّ من المتوسط إلى الفرات، وتشمل حتى مكة والمدينة.
- كتب مثل «العودة إلى مكة» تضع مخططات توراتية لغزو الحرمين.
إنها ليست نبوءة روحية، بل نزعة استعمارية عارية مغلّفة بالوحي. فالخريطة التوراتية لم تتوقف عند القدس، بل تتطلّع إلى الجزيرة العربية برمّتها.
خامساً: التواطؤ العربي — وقود الوحش
الأدهى أنّ أنظمة عربية تغذّي هذا الوحش: مصر تضاعف تجارتها مع الكيان فيما غزة تحت النار، والخليج يفتح أجواءه لطائرات العدو فيما رفح تُذبح. ومعاهدات التطبيع (كامب ديفيد، أوسلو، أبراهام) تُسوَّق كسلام وهي في حقيقتها وقود لمزيد من التوسّع. هكذا يُسجَن المتظاهرون وتُخرس الأصوات، بينما تظلّ السماء مفتوحة لطائرات الاحتلال.
سادساً: لماذا يهمّ الأمر؟
حين يعلن نتنياهو: «سأطارد أعدائي وأفنيهم» فهو لا يبتدع خطاباً؛ إنما يطبّق نصوصاً قديمة ما زالت تُتلى وتُشرعن وتُستغلّ. غزة ليست في عينيه سوى أريحا التوراتية، والفلسطينيون ليسوا إلا عماليق جدد، والعواصم العربية ليست سوى مدن كنعانية محكومة بالتحريم. ومن لم يفق بعد، فليقرأ الرسالة بوضوح: القصف اليومي هو استحضار حيّ لأساطير الدم.
اقتباس بارز:«لا غزة ولا الدوحة ولا تونس — ولا حتى مكة والمدينة — في مأمن حين تتحوّل النصوص إلى خطط حرب.»