اضطلعت التوراة، تاريخيًّا، بدور الحضانة ثم المفرخة الدائمة للصهيونية؛ إذ جرى توظيف مفهوم «شعب الله المختار» و«أرض الميعاد» لإنتاج تمايزٍ فوقىٍّ بين البشر، وتحويله إلى ثقافة سياسية ممتدّة تُلقَّن عبر المدارس الدينية والمدنية وسائر مؤسسات الدولة. ووفق هذا النسق: نصٌّ مقدّس، وشعبٌ مقدّس، وزعماء «ما قبل الدولة» مقدّسون، وحروبٌ «مقدّسة» على أصحاب الأرض وإن كانت عدوانًا صريحًا.
وقد نبّه د. رشاد الشامى فى كتابه الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية إلى أن نصوص العنف التوراتى تُدرَّس بلا معالجة نقدية، بما يجعل مذابح دير ياسين وقانا امتدادًا رمزيًّا لـ«أريحا» التوراتية على لسان بن جوريون؛ أى «قداسة للنص والفاعل والفعل» تُشرعن الإرهاب ضدّ الفلسطينيين.
قداسة اللغة واستثمارها السياسى
ولإكمال دائرة «القداسة»، رُفِعت العبرية إلى مرتبة «اللغة المقدّسة» والرابطة القومية. حافظت جماعات الشتات على الأبجدية العبرية فى المعابد، بل كُتبت لَدينو ويِديش بحروف عبرية، فتعزّزت المهابة الرمزية. ثم جاء المشروع الصهيونى ليحوّل هذه الرمزية إلى سياسة دولة: إحياء العبرية الحديثة بوصفها أداة للتجميع القومى، والاستيطان، وصناعة الوعى.
الجذور السامية والسلالة الكنعانية
العبرية لغة سامية من الفرع الكنعانى، تتقاطع بنيويًا مع العربية والآرامية والفينيقية وغيرها (الجذور، الأوزان، التصريف، الضمائر). وفى فضاء كنعان التاريخى سادت الكنعانية ثم الآرامية لقرون طويلة، وتأسست أعظم منحة حضارية: الأبجدية، التى حملها الفينيقيون غربًا والآراميون شرقًا. ولم تكن العبرية «خالصة» قط؛ إذ تقلّبت بين الحقول الطقسية والربانية بعد السبي، ثم امتصّت من العربية والآرامية، وفى العصر الحديث من اللغات الأوروبية.
من الهيبة الطقسية إلى أداة دولة
قاد مفكرو «الهسكلاه» وأليعازر بن يهودا إحياء العبرية، رغم مقاومة تيارات دينية خشيت «تدنيس» لغة العبادة. غير أن الصهيونية جعلت القداسة «وظيفية»: لغة واحدة لجمع الشتات وبناء جهاز استعمارى كامل، وبرامج تعليمية ترسّخها فى أجيال الوافدين.
لاهوت سياسى و«حرب مقدّسة» وسلام مؤجَّل
فى هذا الإطار تُقدَّم الحروب على العرب بمنطق ملحمت قودش، ويُرحَّل «السلام» إلى أفق مهدوىّ مشروط باعترافٍ كونىٍّ بادّعاءات لاهوتية؛ أى نفىٌ منهجىٌّ لسلامٍ مزيّف راهن. هكذا يتحوّل النص والطقس إلى سياسة توسّع، وضمّ، وتغيير أنظمة، ويُعاد تعريف الاستعمار بوصفه قَدَرًا دينيا.
خلاصة: تسمية الأشياء بأسمائها
حين يمتزج النصّ المقدّس بالنسبة لهؤلاء بآلة الدولة، تُغسَل الجرائم بقداسةٍ زائفة. لقد حوّل المشروع الصهيونى توظيفاته التوراتية وقداسة العبرية إلى شرعيةٍ لأعمال القمع والاقتلاع فى فلسطين. والمطلوب تفكيك هذا اللاهوت السياسى: فالديانة ليست المشكلة لوحدها، بل تسييس النصّ لتطبيع الإرهاب. والعدالة تقتضى نزع القداسة عن العدوان، وردَّ الكرامة والحقوق إلى معيارٍ إنسانىٍّ وقانونىٍّ جامع.