في مشهدٍ يتجاوز حدود الجغرافيا والسيادة، تتكشف خيوط شبكة إجرامية يقودها النظام الإماراتي توظّف الحصار والمجاعة كسلاح من أسلحة الإبادة الحديثة.
من غزة إلى دارفور، يبدو أن الاستراتيجية واحدة: تجويع الشعوب، تدمير المجتمعات، وإخضاعها عبر الضغط على معدتها قبل صدرها.
غزة: مختبر الجريمة
في غزة، حيث تتهاوى أجساد الأطفال على عتبات المستشفيات التي خلت من الغذاء والدواء، لا يقتصر المشهد على حصار إسرائيلي معلن. فخلف الستار، تعمل شبكات إمداد وهمية وواجهات إنسانية على تعميق الكارثة.
إحدى أبرز هذه الواجهات هي مؤسسة “غزة الإنسانية” (GHF)، التي تحولت من شعار الرحمة إلى أداة حصار مُحكمة، تحرم الفلسطينيين من الغذاء، وتحوّل المساعدات إلى أوراق ضغط سياسية وأمنية.
على رأس هذه المؤسسة يقف الأرميني ديفيد بابازيان، شخصية مثيرة للجدل، لا صلة لها بالعمل الإنساني، بل مسيرته مليئة بعلاقات مالية وسياسية غامضة. بابازيان ليس سوى واجهة أخرى لشبكات النفوذ الإماراتي.
بابازيان… من الفساد إلى حصار الشعوب
ديفيد بابازيان متهم في بلده أرمينيا بقضايا فساد، لكنه وجد في أبوظبي ملاذًا آمنًا، كما فعل كثير من غاسلي الأموال حول العالم. ليس مجرد مقيم في الإمارات، بل شريك استراتيجي في مشاريع كبرى ترتبط مباشرة بسلطة بن زايد:
صفقة الطاقة الشمسية في أرمينيا: مشروع “أيغ-1” بقيمة 174 مليون دولار، تموّل الإمارات 85% منه عبر شركة “مصدر”.
شركة الطيران Fly Arna: أطلقها بالشراكة مع “العربية للطيران” الإماراتية، لتكون واجهة اقتصادية وسياسية.
منتديات الاستثمار الأرميني–الإماراتي: كان بابازيان منسقها الأساسي، بحضور مسؤولين إماراتيين رفيعي المستوى.
هذه السيرة تفسر كيف ولماذا وقع الاختيار عليه لإدارة ملف بالغ الحساسية في غزة، رغم افتقاره لأي خبرة إنسانية أو إغاثية. ببساطة، هو رجل المهام القذرة الذي يثق به القصر في أبوظبي.
من غزة إلى السودان: النسخة المكررة
ما جرى في غزة لم يكن سوى نموذج تجريبي. حين أثبتت سياسة الحصار والتجويع فاعليتها في إضعاف مجتمعٍ مقاوم، أعاد بن زايد إنتاجها في السودان، عبر دعم مليشيات “قوات الدعم السريع” في دارفور.
أكثر من 25 مليون سوداني يعيشون في فقر مدقع، نصفهم لا يجدون ما يكفي من الطعام.
مخيمات الزمزم والفاشر تشهد مجاعة مروعة، حيث يموت الناس بصمت قبل أن تصلهم رصاصة.
الحصار الميداني الذي تفرضه قوات الدعم السريع – الممولة والمدعومة سياسيًا من أبوظبي – يمنع دخول الغذاء والدواء، تمامًا كما يفعل الحصار في غزة.
المشهد في دارفور يكشف بوضوح أن ما يحدث ليس صدفة ولا نتاج فوضى الحرب، بل استراتيجية ممنهجة:
“من يجوّع غزة بديفيد بابازيان… هو نفسه من يطحن السودان برجال الدعم السريع”.
التجويع كسلاح سياسي
التجويع، وفق القانون الدولي الإنساني، جريمة حرب إذا استُخدم كسلاح. لكن في قاموس النظام الإماراتي، هو أداة ضغط وابتزاز، تُنفّذ بغطاء “المساعدات الإنسانية” التي تُوزّع بالقطارة أو تُمنع تمامًا.
في غزة، تتحكم مؤسسة GHF وغيرها من واجهات أبوظبي في تدفق الغذاء، بما يخدم الرواية الإسرائيلية ويخفف الضغط الدولي عنها.
وفي دارفور، تتكرر المأساة عبر دعم قوات تُحاصر المدن والقرى، وتمنع وصول المساعدات الأممية، بينما تتدفق الأسلحة والمال من أبوظبي إلى قادة المليشيات.
الغاية: كسر إرادة الشعوب
تبدو فلسفة بن زايد بسيطة لكنها مروّعة: لا حاجة لمعركة مفتوحة إذا كان بالإمكان ترك الخصم يموت جوعًا. هذه السياسة تحقق أهدافًا متعددة:
إضعاف الروح المعنوية للمجتمع المستهدف.
خلق حالة من الانقسام الداخلي على الموارد المحدودة.
فرض تسويات سياسية مذلة مقابل لقمة الخبز.
لماذا الإمارات؟
تطرح هذه الوقائع سؤالًا جوهريًا: ما مصلحة الإمارات في إدارة مجاعات خارج حدودها؟
الإجابة تكمن في ثلاثة عناصر أساسية:
النفوذ الإقليمي: عبر التحكم في ملفات إنسانية حساسة، تستطيع أبوظبي لعب دور “المنقذ” متى شاءت، وابتزاز القوى الدولية.
خدمة الحلفاء: سواء في غزة عبر مساندة الأجندة الإسرائيلية، أو في دارفور عبر توسيع نفوذ حلفائها المحليين.
تجربة أدوات السيطرة: تحويل الحصار الغذائي إلى أداة سياسية قابلة للتصدير لمناطق أخرى.
الأدلة لا تكذب
الروابط بين أبوظبي وديفيد بابازيان، وبين أبوظبي وقوات الدعم السريع، ليست مجرد تحليلات سياسية، بل حقائق موثقة في عقود وصفقات وتحقيقات إعلامية دولية. هي شبكة مصالح مالية وعسكرية وإنسانية زائفة، تمتد من مشاريع الطاقة والطيران إلى إدارة المساعدات الإنسانية على نحو موجه.
وحين نتحدث عن الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، فنحن لا نصف زعيمًا يخطئ التقدير، بل مهندسًا يستنسخ نموذج الإبادة البطيئة. من غزة إلى دارفور، تتشابه الأرقام والوجوه والمآسي، وكأن الخرائط تتداخل تحت يد واحدة.
المأساة أن هذه الجرائم تجري تحت أعين المجتمع الدولي، وبمباركة قوى كبرى ترى في بن زايد “شريكًا موثوقًا”، رغم أن سجله في استخدام الجوع كسلاح يشكل وصمة عار على جبين الإنسانية.