في الوقت الذي تشتعل فيه غزة بالمآسي والمجازر، وتخنقها المجاعة والحصار، تُفتح بوابة جديدة أمام الاحتلال الإسرائيلي نحو إحكام قبضته على الضفة الغربية – ولكن هذه المرة، لا عبر الجدار أو الدبابة، بل عبر “التحويلات المصرفية” والرقابة الرقمية، وبمباركة شريك عربي: النظام الإماراتي.
ففي خطوة توصف بأنها الأخطر منذ تطبيع أبوظبي مع تل أبيب عام 2020، وقّعت السلطة الفلسطينية اتفاقًا ماليًا مع أبوظبي يضع السلك المالي الفلسطيني تحت رقابة ثنائية: أمنية – إماراتية، وتقنية – إسرائيلية، عبر ما يُسمى بنظام NER لمراقبة المعاملات، والمتصل مباشرة بالبنية الأمنية الإماراتية ومراكز بيانات عبرية.
المال بدل السيادة
بحسب مصادر مطّلعة على المباحثات التي جرت “خلف الأبواب المغلقة” بين رام الله وأبوظبي، فإن الاتفاق الذي تم تقديمه كـ “دعم فني لتحسين الشفافية المالية”، يخفي في طياته بنية رقابية أمنية تتيح للإمارات – وتل أبيب بالتبعية – التحكم بتدفق المال إلى أي كيان فلسطيني، رسمي أو شعبي، بل وتحديد “شرعية” كل جهة متلقية.
بهذا المعنى، يصبح أي طرف خارج الخط الإماراتي الإسرائيلي – سواء كان فاعلاً أهلياً، مؤسسة إغاثية، أو حتى داعمًا من دولة عربية أخرى مثل قطر أو السعودية – عرضة للاتهام بـ “تمويل الإرهاب” أو “الجهات الخارجة عن القانون”.
رقابة خارجية على الداخل الفلسطيني
تؤكد الوثائق والمحادثات الجانبية التي تلت التوقيع، أن جهاز أمن الدولة الإماراتي بدأ فعليًا بإجراء اتصالات مع شركات حوالات مالية في الخليج لربطها بنظام المراقبة الجديد، بما يشمل تحديد المستفيد النهائي، الجهة الوسيطة، وغرض التمويل.
ليس ذلك فحسب، بل بدأ تمويل “نموذج تجريبي” لمحطة ذكية لتحويل الأموال في رام الله، تُراقب بياناتها من أبوظبي، وتعمل وفق معايير تم تصميمها بالتنسيق مع وحدات الأمن السيبراني الإسرائيلية.
نحو ضمّ اقتصادي صامت
ما يجري لا يمكن فهمه إلا في إطار محاولة استراتيجية من قبل الاحتلال لإخضاع الفلسطينيين في الضفة لسلطة ناعمة جديدة: سلطة المال المشروط، التي لا تمرّ فقط عبر أبو ظبي، بل تدار وفق رغبات تل أبيب.
وبينما تعاني السلطة الفلسطينية من أزمة مالية خانقة، جاءت أبوظبي لتقدّم ما يبدو كشبكة إنقاذ… لكنها مشروطة، وهي في الواقع أشبه بحبلٍ حريري يلتف تدريجياً حول عنق القرار الفلسطيني، في السياسة كما في الميدان.
فاليوم، تُموّل الإمارات نظامًا يزعم “محاربة الفساد”، وغداً تُدار رواتب الموظفين والمساعدات الإغاثية وبطاقات التموين الرقمية عبر بنية مراقبة واحدة، تضمن أن لا مال يدخل فلسطين إلا بموافقة “نظام بن زايد” – أي أن الاحتلال بات يملك حق الفيتو المالي من خلف الستار.
إقصاء للداعمين العرب
منذ توقيع الاتفاق، بدأت إشارات واضحة للضغط على كل جهة تحاول تقديم دعم خارج “القنوات المعتمدة”. تم إبلاغ بعض الجمعيات الخليجية أن أي تحويلات لغزة أو الضفة دون المرور بالنظام الجديد ستُعتبر “معادية للشرعية”.
هذا السيناريو يصبّ مباشرة في صالح إسرائيل، التي طالما سعت لعزل الفلسطينيين عن أي دعم شعبي أو رسمي من العالم العربي، لا سيما من الدول التي لا تسير في ركب التطبيع.
وبينما تواصل دول عربية دعم المؤسسات الإغاثية والمجتمعية في الأراضي الفلسطينية، يبدو أن الإمارات تعمل، ضمن تنسيق وثيق مع الاحتلال، على تقليص أي هامش دعم خارجي إلا عبر بوابتها “المالية الآمنة”.
تمهيد لمخطط سياسي أوسع
في هذا السياق، يُفهم السلوك الإماراتي بوصفه جزءًا من مشروع متكامل لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في الضفة الغربية.
فبعد فشل الاحتلال في تصفية البنية العسكرية للمقاومة، يسعى اليوم لتفكيك ما تبقى من بنية الصمود المجتمعي والاقتصادي.
أبوظبي هنا ليست مجرد شريك مالي، بل أداة تنفيذ فاعلة لمشروع احتلالي من نوع جديد: احتلال ناعم يعتمد على الإذلال المالي والتجفيف الاقتصادي، وليس على المجنزرات والجرافات.
وكما أن “التنسيق الأمني” سمح للاحتلال بالوصول إلى المقاومين، فإن “التنسيق المالي” سيمكّنه من شلّ كل من يجرؤ على الخروج عن السردية الرسمية التي تخدم مصالح الاحتلال.
تطبيع مغلف بمساعدات
المفارقة أن النظام الإماراتي يقدّم هذا الانخراط في الشأن الفلسطيني بوصفه “خدمة للقضية”، بينما هو في الحقيقة تجسيد حيّ لمقولة: “من يدفع يقرر”.
تحت لافتة الدعم المالي، يسعى ابن زايد ليكون اللاعب العربي الوحيد ف