في الوقت الذي يتصاعد فيه الضغط الدولي لوضع حد لإحدى أكثر الحروب دموية في التاريخ الفلسطيني الحديث عبر وقف إطلاق النار في فطاع غزة، تقف بعض القوى الإقليمية في الظل، لا للدفع نحو السلام، بل لعرقلته.
تأتي على رأس هذه القوى دولة الإمارات التي ثبت أنها تلعب دورا تخريبيا مباشرا في إفشال محادثات وقف إطلاق النار في غزة، وذلك من خلال تحركات دبلوماسية سرية وضغوط منظمة على صناع القرار في واشنطن.
وفقًا لمصادر دبلوماسية أمريكية رفيعة، مارس مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد والسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة ضغوطًا مباشرة على البيت الأبيض، مطالبين بوقف دعم جهود الوساطة القطرية والتركيز بدلاً من ذلك على دعم الشروط الإسرائيلية، التي تتضمن تفكيك حماس واستبعاد أي وقف لإطلاق النار قبل “إعادة ترتيب” الوضع في غزة.
ويفيد دبلوماسيون تحدثوا لموقع سيمافور أن الرسالة الإماراتية إلى واشنطن كانت واضحة: “وقف إطلاق النار الآن يُكافئ حماس ويُقوّض الاستقرار الإقليمي”. هذه الرسالة جرى تمريرها عبر إحاطات مغلقة لمشرعين أمريكيين، ولقاءات مع مسؤولين في البنتاغون ووزارة الخارجية.
رؤية إماراتية لـ”غزة ما بعد حماس”
في أوائل يوليو/تموز، تم تداول مذكرة سرية أعدتها جماعات ضغط مقربة من أبوظبي داخل أروقة الكونغرس، تتضمن “خطة ما بعد حماس” لغزة.
الخطة تدعو إلى تشكيل إدارة دولية للقطاع، تكون تحت قيادة شخصيات فلسطينية مقربة من الإمارات ومنخرطة في مسارات التطبيع، مع إقصاء جميع فصائل المقاومة من المشهد، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي.
هذه الخطة، بحسب المذكرة، تتطلب استمرار الضغط العسكري الإسرائيلي لأطول فترة ممكنة، لضمان “تصفية” البنية السياسية والعسكرية للمقاومة.
حملات دعائية وضغوط داخل الكونغرس
بحسب ما كشفه مساعدان في الكونغرس، شملت حملة الضغط الإماراتية حفلات عشاء خاصة وإحاطات مغلقة ومقالات رأي منسقة في الصحف الأمريكية، تؤيد مواصلة العمليات العسكرية الإسرائيلية حتى “تحقيق النصر الكامل”.
وفي أواخر يونيو/حزيران، عقد السفير العتيبة اجتماعات مغلقة مع أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ ولجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، حذر خلالها من أن أي وقف لإطلاق النار سيكون “سابقًا لأوانه”، وسيهدد “التوازن الإقليمي”.
وفي تطور مثير للجدل، كشف دبلوماسيون غربيون أن المخابرات الإماراتية شاركت ملفات استخباراتية مع واشنطن، تربط فصائل المقاومة في غزة بإيران، وذلك في محاولة لتقويض الزخم الدبلوماسي المؤيد للتهدئة وتصوير الحرب باعتبارها جزءًا من “معركة ضد الإرهاب الإقليمي”.
تنسيق مباشر مع إسرائيل
في الوقت ذاته، تؤكد تسريبات إعلامية إسرائيلية أن طحنون بن زايد كان على اتصال دائم بمسؤولين أمنيين إسرائيليين خلال الأسابيع الماضية، يناقش معهم “اليوم التالي للحرب”، ويعرض دورًا أمنيًا واقتصاديًا للإمارات في إعادة إعمار غزة، ضمن ترتيبات تستبعد أي فاعل فلسطيني حقيقي من المعادلة.
هذا التنسيق يعكس، وفقًا لمراقبين، التحالف الاستراتيجي العميق بين أبوظبي وتل أبيب، والذي يهدف إلى إعادة صياغة مستقبل غزة والمنطقة وفقًا لمصالح مشتركة، حتى لو جاء ذلك على أنقاض عشرات الآلاف من الضحايا.
أهداف خفية: تقويض قطر وتهميش الفلسطينيين
يرى محللون أن التحركات الإماراتية لا تقتصر على تقويض وقف إطلاق النار فحسب، بل تستهدف بالأساس تقليص الدور القطري في ملف غزة، وتهميش القيادة الفلسطينية في أي ترتيبات سياسية قادمة. ويقول مصدر مطلع: “الإمارات لا تريد سلامًا… بل تريد قيادة البديل الفلسطيني المُطيع الذي يخدم أجندتها التطبيعية”.
هذه الأجندة ليست جديدة، فقد دعمت الإمارات محاولات مشابهة في 2014 و2021 لإفشال جهود التهدئة في غزة، وشاركت حينها عبر وسطاء غير رسميين في إقناع أطراف غربية بعدم الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار.
كلفة إنسانية مروعة… والصمت مخزٍ
في ظل هذا المشهد، تتجاوز حصيلة القتلى في غزة 58 ألفًا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، غالبيتهم من النساء والأطفال، بينما لا تزال الإمارات تؤخر الحل السياسي وتروج لحلول “أمنية – استئصالية” بدلًا من مسار تفاوضي حقيقي.
هذه التدخلات تثير تساؤلات أخلاقية وقانونية جدية: هل تعرقل أبوظبي عملية السلام عمدًا؟ هل تتحمل مسؤولية قانونية عن استمرار الحرب؟ وهل من الممكن مساءلتها أمام المؤسسات الدولية على دورها غير المعلن في تغذية النزاع؟
وما يبدو جليًا هو أن غزة، بالنسبة للإمارات، ليست مأساة إنسانية، بل ساحة نفوذ وصراع نفط وموانئ وتحالفات. إنها جزء من مشهد جيوسياسي واسع تسعى فيه أبوظبي لتكريس دورها كلاعب إقليمي على حساب معاناة الملايين.
ورغم التصريحات العلنية حول “القلق الإنساني”، فإن التحركات الإماراتية الفعلية ترسل رسالة معاكسة: استمرار الحرب يخدم المصالح، ووقفها يُهدد الخطط.
وعليه فإن تدخل الإمارات في ملف غزة لم يعد خافيًا، بل صار أحد أبرز عوامل فشل جهود وقف إطلاق النار. وبينما تتحدث بعض العواصم عن السلام، تتحرك أبوظبي بهدوء لإفشاله، بحثًا عن دور وسلطة وصفقات، ولو على دماء الأبرياء.