تبدو صورة أئمة مساجد من أوروبا يقفون في حضرة رئيس الاحتلال الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، ويغنّون معه نشيد الكيان، مشهداً صادماً لكثيرين، لكنه في الحقيقة ليس مشهداً عابراً أو منفصلاً عن سياق سياسي وأمني طويل الأمد في سياق حملة الإمارات لتلميع إسرائيل.
إذ خلف هذه الوجوه «المتسامحة» التي تلوّح بشعارات السلام، يقف لاعب إقليمي بات بارعاً في صناعة الأجندات وتوظيف الدين كأداة سياسية هو النظام الإماراتي.
الوفد الذي أثار ضجة هذا الأسبوع بزيارته للقدس المحتلة، والذي ضم أئمة وقادة جاليات إسلامية من فرنسا وإيطاليا وهولندا وبريطانيا، ليس مبادرة دينية عفوية، بل حلقة من مشروع طويل، تديره وتموّله أبوظبي، بهدف اختراق الساحة الإسلامية الأوروبية وإعادة تشكيل خطابها بما يخدم مصالح إسرائيل والإمارات معاً.
هندسة «إسلام إماراتي»
منذ 2018، أطلقت أبوظبي مشروعاً طموحاً لإنتاج نسخة جديدة من الإسلام، تروّج للتطبيع، وتساير الرواية الأمنية الغربية، وتخضع لإملاءات الإمارات باعتبارها «الراعي الشرعي» للإسلام المعتدل.
الواجهة الأبرز لهذا المشروع كان «مركز هداية لمكافحة التطرف» في أبوظبي، الذي يُسوَّق بصفته مؤسسة تدريبية لنشر التسامح، بينما دوره الحقيقي هو إعداد كوادر دينية وسياسية تروّج لسياسات النظام الإماراتي.
هذا المركز عقد شراكات مع منظمات أوروبية، بعضها يحمل أجندة معادية للمسلمين وإن تنكرت تحت عنوان «مكافحة التطرف». من أبرز هذه المنظمات «إلنيت» (ELNET) الصهيونية، التي تولت تنظيم اللقاء الأخير بين الوفد الإسلامي وهرتسوغ، والتي تعمل على تعزيز الروابط السياسية والإعلامية بين أوروبا وإسرائيل.
صناعة الأئمة المروّجين للتطبيع
لم يكن حسن شلغومي – الإمام الفرنسي المعروف بولائه الأعمى لإسرائيل وعدائه الشديد للإخوان المسلمين وحركات المقاومة – سوى واحد من هؤلاء الأئمة الذين صنعتهم الإمارات ليكونوا سفراء «إسلام التسامح» المزعوم.
فقد تم استقطابه، إلى جانب شخصيات أخرى مثل يوسف مصيبح، ضمن برامج تدريبية نظمتها أبوظبي ومراكش، بتمويل مباشر من مركز هداية.
هذه البرامج لم تكن دينية بقدر ما كانت سياسية، ركزت على تلقين هؤلاء الأئمة خطاباً محدداً: الحديث عن الإسلام كدين سلام، لكن بشروط الإمارات، أي إسلام منزوع السياسة، خاضع للتطبيع، مطيع للرواية الإسرائيلية، صامت عن المذابح في غزة أو الضفة.
حملة تلميع إسرائيل
لم يكن لقاء الوفد مع هرتسوغ مجرد مجاملة بروتوكولية. فالاحتلال الإسرائيلي يعيش أزمة وجودية غير مسبوقة بسبب حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة، والتي أحرجت حلفاءه الغربيين أمام الرأي العام. لذا فإن تل أبيب تبحث عن أدوات جديدة لتبييض صورتها، ولا تجد أفضل من «أئمة مسلمين» يأتون من أوروبا ليغنّوا لها أناشيدها ويزوروا معالمها، ويبعثوا برسائل مفادها أن إسرائيل دولة «تعايش وسلام».
هذا ما عبّر عنه هرتسوغ حين أشاد بأعضاء الوفد ووصفهم بأنهم «صوت التسامح» الذي سينقل رسالة إيجابية عن إسرائيل إلى الجاليات المسلمة في أوروبا. والواقع أن الإمارات هي من تدفع هؤلاء لنقل هذه الرسالة، في إطار مشروعها الأكبر لتشكيل ما تسميه «الإسلام الأوروبي المعتدل».
الإمارات شريك الاحتلال في حربه الناعمة
هنا تظهر خطورة الدور الإماراتي. فبينما تقتل إسرائيل الأطفال في غزة وتحاصر الفلسطينيين، تعمل أبوظبي على توفير الغطاء الديني والسياسي لها، عبر تجنيد أئمة ودعاة يروجون للرواية الإسرائيلية. ولعل أخطر ما في هذا الدور أنه يختبئ وراء شعارات نبيلة مثل مكافحة التطرف أو نشر التسامح.
في الظاهر، تحارب الإمارات «التطرف». لكن عملياً، هي تحارب أي خطاب إسلامي مستقل أو معادٍ للتطبيع أو ناقد للغرب أو داعم للمقاومة. كل من لا يلتزم بمحددات «الإسلام الإماراتي» يصبح إرهابياً أو متطرفاً في نظرها.
صفقات على حساب فلسطين
لم يكن حضور الوفد الإسلامي الأوروبي إلى القدس إلا تتويجاً لسنوات من العمل الإماراتي على اختراق المجتمعات المسلمة في أوروبا.
فالإمارات تدرك أن هذه الجاليات تملك تأثيراً سياسياً واجتماعياً متزايداً، وصوتها يُسمع في البرلمانات والصحافة. لذا تسعى أبوظبي لتحويل هذا الصوت إلى أداة ضغط لصالح إسرائيل، خصوصاً مع تعاظم حملات مقاطعة الاحتلال في أوروبا.
أبوظبي اليوم ترى أن الطريق إلى واشنطن وباريس وبرلين يمر عبر تل أبيب. وهي مستعدة لبذل الأموال والجهود لتجنيد رجال دين ومسؤولين وجماعات ضغط للترويج للتطبيع، ولو على حساب دماء الفلسطينيين.
خطر يمتد إلى الداخل العربي
المشكلة لا تقتصر على أوروبا. فالإمارات تصدّر نفس النموذج إلى الداخل العربي. هناك أئمة ومشايخ يعيشون بيننا، يُقدَّمون على أنهم «علماء وسطيون»، لكنهم في الحقيقة مجرد موظفين يكررون خطاب أبوظبي عن «التسامح» و«محاربة الإسلام السياسي»، بينما يتجاهلون الإبادة في غزة والجرائم في الضفة.
خطر هؤلاء أكبر من الوفود الأوروبية. فهم يتحدثون بلسان عربي، ويملكون حضوراً إعلامياً ضخماً، ويروجون لأجندة الإمارات التي تتماهى كلياً مع المصالح الإسرائيلية.
إنها حرب ناعمة، لكن ضحاياها ليسوا أقل من ضحايا الحرب بالنار والحديد. ضحيتها الأولى هي الحقيقة، وضحيتها الأهم هي فلسطين.