لم يكن مفاجئاً أن تكشف وسائل إعلام إسرائيلية، قبل يومين، ما سبق وأشرنا إليه مراراً عن لقاءات سرية جمعت وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بمسؤولين إسرائيليين، بهدف التخطيط لإيجاد بديل لحركة حماس في غزة.
الجديد فقط أن هذه التسريبات خرجت هذه المرة من داخل إسرائيل، على لسان يائير غولان، الجنرال الإسرائيلي السابق والسياسي المعروف، الذي أقرّ بأن بن زايد أبدى استعداداً كاملاً لبناء وتمويل نظام حكم بديل لحماس في القطاع، تحت إشراف مباشر من تل أبيب.
ما يجري تداوله اليوم في الصحافة الإسرائيلية ليس سوى تأكيد إضافي على المشروع الإماراتي الذي يسعى منذ سنوات إلى تمكين نفسه في غزة، لا حباً في أهلها، بل سعياً إلى لعب دور “الوسيط المطيع” الذي يحقّق لإسرائيل ما عجزت عنه كل الحروب والحصارات: غزة بلا مقاومة، بلا قرار، وبلا سلاح.
اللقاءات السرية… وما وراء التسريبات
بحسب التسريبات الأخيرة، فإن اللقاء المشار إليه بين عبد الله بن زايد ومسؤولين إسرائيليين لم يكن الأول من نوعه، بل تكرر أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية، وكان آخرها لقاءٌ عُقد قبل أيام بحضور أمريكي رفيع.
في هذا اللقاء، قدّم الجانب الإماراتي عرضاً خطيراً: تدريب كوادر أمنية “غير فصائلية” تتبع لإدارة مدنية جديدة، لتتسلّم زمام الأمور في غزة بعد إزاحة حماس.
هنا يجب الوقوف عند نقطة غاية في الأهمية: فشل مشروع ياسر أبو شباب — الذي مولته أبوظبي ليكون نسخة “حفتر” أو “حميدتي” غزة — لم يدفع الإمارات للتراجع، بل زادها إصراراً على إيجاد بدائل أخرى.
وهو ما يكشف أن المشروع ليس اجتهاداً عابراً، بل خطّة استراتيجية تتكامل فيها أدوار الإمارات وإسرائيل وحتى الولايات المتحدة.
“وحدة تنسيق الرأي العام الإسرائيلي” على الخط
المثير أيضاً أن إفصاح يائير غولان عن تفاصيل اللقاء الأخير لم يأتِ من باب “الشفافية”، بل بعد حصوله على ضوء أخضر من “وحدة تنسيق الرأي العام الإسرائيلي”. وهذا مؤشر بالغ الخطورة: إسرائيل تهيّئ الرأي العام الداخلي والخارجي لمرحلة ما بعد حماس.
فالخطاب الإسرائيلي بدأ ينتقل من “إبادة حماس” إلى “من سيحكم غزة بعدها؟”، والإجابة جاهزة في عقل تل أبيب: نظام بديل مولته ودرّبته أبوظبي.
إعادة إعمار مشروطة… بشركات إماراتية
لا تقتصر المؤامرة على تغيير الحكم في غزة فقط، بل تمتد إلى الملف الأخطر: إعادة إعمار القطاع.
إسرائيل، وفق التسريبات، لن تسمح بأي مسار لإعادة الإعمار إلا من خلال شركات إماراتية، أي أن أبوظبي ستكون بوابة المال والمشاريع، وبالتالي ستتحكم في تفاصيل حياة الغزيين، وتملك القدرة على الابتزاز السياسي والاقتصادي، وتوجيه إعادة الإعمار بعيداً عن أي نفوذ للمقاومة أو القوى الشعبية الحقيقية.
هذه الخطة ستعيد هندسة غزة إدارياً وإعلامياً، بحيث تُمحى أي ملامح للقوى المقاومة، ويجري تسويق صورة قطاع “مسالم”، منزوع السلاح، خاضع للهيمنة الإماراتية والإسرائيلية.
“نافذة نفوذ” لا أكثر
في نظر محمد بن زايد وشقيقه عبد الله، غزة ليست أكثر من “نافذة نفوذ” جديدة. مشروعهم ليس نصرة للشعب الفلسطيني ولا دعماً لحقوقه. بل هو محاولة لتقديم أوراق اعتمادهم أمام واشنطن وتل أبيب كحليف عربي “فعال” قادر على إدارة الملفات المعقدة في المنطقة.
لذلك لا مشكلة لديهم في أن تتحول غزة إلى ساحة نفوذ أمني إماراتي، يراقب الناس، ويكبح أي صوت مقاوم، وينقل تجربة القمع والبوليسية من أبوظبي إلى القطاع المحاصر.
الإمارات، كما إسرائيل، تريد غزة بلا سلاح، بلا قرار، وبلا حتى فكر مقاوم. هذا هو جوهر الصفقة. أما كل الحديث عن “إعادة إعمار” أو “حكم مدني” فهو مجرد قناع لخنق غزة سياسياً وأمنياً، وتحويلها إلى جيب خاضع لمصالح الاحتلال وحلفائه.
توقيت التسريب… ورسائل المرحلة
اختيار توقيت التسريب الإسرائيلي ليس عشوائياً. فالاحتلال بات مقتنعاً أن آلة الحرب لم ولن تنجح في اجتثاث المقاومة من غزة، وأن البديل الوحيد لإضعافها يكمن في خلق واقع سياسي جديد.
وهنا يظهر دور الإمارات التي لا تجد حرجاً في التآمر على غزة مقابل ضمان مقعد أوسع على طاولة النفوذ الإقليمي.
كما أن إشراك واشنطن بشكل مباشر في اللقاءات الأخيرة يعني أن إسرائيل لن تتحرك منفردة، بل تهيّئ الأرضية لحل سياسي قادم، يتطلب واجهة عربية “نظيفة الشكل” مثل أبوظبي، لتسويق المرحلة الجديدة أمام المجتمع الدولي.
لكن هناك حقائق لا يمكن تجاوزها:
لم تنجح إسرائيل طوال سنوات الحصار والقصف في إزاحة حماس أو سحق المقاومة.
أي بديل تُخطط له الإمارات لن يملك شرعية شعبية في غزة، مهما موّلته أو سلحته.
أهل غزة أثبتوا أن وعيهم أعمق من أن ينطلي عليهم تاجر نفط يريد تلميع صورته على حساب دمهم وكرامتهم.
مقاومة شعبية في مواجهة التآمر
غزة ليست للبيع. ولن تكون ورقة في جيب محمد بن زايد أو غيره. ما يجري الحديث عنه اليوم في غرف تل أبيب وأبوظبي وواشنطن، لن يمرّ بسهولة على أرض الواقع. فالشعب الذي صمد أمام الحصار والقصف والتجويع، لن يسمح بتسليم غزة لحاكم جديد، حتى لو أتى على ظهر مليارات الدولارات أو عبر شركات الإعمار.
يبقى أخطر ما في الخطة الإماراتية أنها تمنح إسرائيل فرصة ذهبية لإعادة صياغة غزة وفق مقاساتها الأمنية والسياسية. لكن هذه الخطة – مثل كل ما سبقها – ستصطدم بواقع عنيد اسمه المقاومة، التي قد تخسر معارك أو تتراجع أحياناً، لكنها أثبتت أنها عصيّة على الاجتثاث أو الاستبدال.
الإمارات، بتآمرها العلني والمفضوح، تؤكد مرة أخرى أنها لا تلعب إلا دور “كلب الحراسة” للمصالح الإسرائيلية في المنطقة. لكن غزة، التي تعيش على حافة الموت منذ سنوات، لن تسمح لهذا الدور أن يتحول إلى قدر دائم.
وفي النهاية، قد يموّل بن زايد البدائل، وقد تدعمها إسرائيل، لكن من سيحكم غزة حقاً، سيبقى من يملك شرعية الشارع والميدان، لا من يجلس في فنادق أبوظبي أو غرف تل أبيب.