في السنوات الأخيرة، لم تعد المواقف السياسية لدولة الإمارات مجرد انحياز لحلفائها الغربيين، بل باتت في جوهرها انعكاسًا صريحًا لأجندة تل أبيب في المنطقة وأصبحت أبوظبي تتحدث بلسان إسرائيلي في أهم القضايا العربية.
ومع كل منعطف إقليمي، يظهر وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد ليؤكد هذا التحول، وآخر تجلياته كان في مقابلة له مع شبكة “فوكس نيوز” الأمريكية، حيث قال: “من المبكر استخدام كلمة ثقة بشأن الرئيس الشرعي في سوريا، وعلينا التحقق من رسائلهم.” تصريح لا يمكن عزله عن السياق العام الذي تمليه المصلحة الإسرائيلية، بل هو في الحقيقة ترديد حرفي لخطاب تل أبيب.
تشكيك إماراتي بالنظام السوري: بلسان من؟
تصريحات عبد الله بن زايد لم تكن مجرد رأي شخصي أو موقف عابر. لقد سبقه بنيامين نتنياهو نفسه حين قال: “لا ثقة بالنظام السوري إلا إذا التزم باتفاقيات أبراهام وضمن أمن إسرائيل.”.
المفارقة أن عبد الله بن زايد كرر المعنى ذاته بعد أيام، دون أن يذكر مصالح العرب، أو وحدة سوريا، أو إعادة الإعمار، أو ملايين اللاجئين.
لم يكن هناك أي ذكر لمظلومية الشعب السوري، ولا لدوره التاريخي، ولا لحجم الكارثة التي ألمت بالبلاد منذ 2011. كل ما شغل الخارجية الإماراتية هو: هل يضمن النظام السوري أمن إسرائيل؟
ما الذي يشكله “النظام السوري الجديد” من خطر على الإمارات حتى يُحرَم من “الثقة”؟ وهل هذا النظام يشكّل تهديدًا على الأمن القومي الخليجي أو العربي؟ أم أن معيار الثقة أصبح مقترنًا بمدى استجابة الدول لمطالب تل أبيب وليس لشروط الانتماء العربي؟ إذا كانت السعودية، بثقلها السياسي والديني، قد قررت فتح صفحة جديدة مع دمشق، فما الذي يدفع الإمارات لتبني خطابًا أكثر تصلبًا من الإسرائيليين أنفسهم؟
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
الجواب لا يتعلق بسوريا بقدر ما يعكس موقع أبو ظبي الجديد ضمن منظومة إقليمية تتقاطع مصالحها مع رؤية تل أبيب، وليس مع تطلعات الشعوب العربية.
المطالبة بتجريد المقاومة وتسليم غزة
الموقف الإماراتي من غزة لا يقل وضوحًا في تمثيل الخط الإسرائيلي. في وقت ترتكب فيه إسرائيل مجازر يومية بحق المدنيين، وتفرض حصارًا خانقًا منذ أكثر من 17 عامًا، تقف الإمارات في طليعة المطالبين بـ”نزع سلاح المقاومة” وتسليم القطاع لـ”جهة معتدلة” – وهي تعبيرات مأخوذة من قاموس الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
في محطات عدة، روّجت وسائل إعلام إماراتية لرؤية تسوية ما بعد الحرب تتضمن “إعادة إعمار غزة مقابل نزع السلاح”، وهو الطرح ذاته الذي تتبناه وزارة الأمن الإسرائيلية. أما الحديث عن إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، ومحاسبة مجرمي الحرب، فغائب تمامًا عن أي بيان أو تصريح رسمي من أبو ظبي.
لقد تحولت الإمارات من دولة تدعي نصرة القضية الفلسطينية، إلى منصة تسوّق لضرورة إنهاء “المقاومة المسلحة” بحجة السلام.
لكن أبوظبي تتغافل، أو تتجاهل عمدًا، أن المقاومة هي رد فعل طبيعي على الاحتلال، وأن نزع السلاح في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي هو بمثابة استسلام غير مشروط.
صمت عن مجازر الحرب
من المثير للغضب أن الخطاب الإماراتي الرسمي لا يأتي على ذكر ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة.
مئات آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيين، أطفال بلا أطراف، عائلات دُفنت تحت الأنقاض، مستشفيات قُصفت، وبيوت سُويت بالأرض – كل ذلك لا يحظى بمساحة في البيانات الرسمية.
ما يُذكر فقط هو “ضرورة إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة”. وكأن معاناة الفلسطينيين لا تستحق الذكر، وكأن الدم العربي لا قيمة له أمام معاناة جندي أو مستوطن وقع في الأسر.
هذا الانحراف الأخلاقي والسياسي يفضح حجم التماهي بين أبو ظبي وتل أبيب، ويجعل من الإمارات وسيطًا غير نزيه في أي جهد دبلوماسي مقبل.
رسائل مشروطة وتطبيع انتقائي
في كواليس اللقاءات السياسية، يتردد أن “التطبيع الكامل” مع النظام السوري مرهون بتوقيعه اتفاقًا مع إسرائيل، وهي رسالة نقلها ترامب بنفسه للإماراتيين خلال لقاءات غير معلنة.
بمعنى آخر، أبو ظبي لا تنظر إلى دمشق كعاصمة عربية، بل كموقع جغرافي يجب أن يُطبع قبل أن يُعترف به.
هذا التوجه ينسحب أيضًا على لبنان، حيث تتبنى الإمارات مواقف داعمة لتحجيم حزب الله بأي ثمن، بما في ذلك تمويل قنوات وأجندات إعلامية تسعى لشيطنته داخليًا وخارجيًا، تمامًا كما تفعل تل أبيب.
الإمارات في مفترق طرق
ما يجري اليوم ليس انحرافًا في الموقف الإماراتي فحسب، بل إعادة صياغة كاملة لدور الدولة في المنطقة. الإمارات تتحول تدريجيًا إلى أداة إسرائيلية تعمل تحت غطاء عربي، تُجمّل الاحتلال، وتُحرّض على المقاومة، وتُربك الإجماع العربي الذي لا يزال – رغم التصدعات – يرفض التطبيع الكامل دون ثمن.
اليوم، الإمارات أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن تعود إلى حضن العروبة، وتعيد تموضعها بما يتماشى مع القضايا العادلة، وعلى رأسها فلسطين.
أو تظل أداة صهيونية، تديرها غرف تل أبيب، وتستثمر في الانقسام العربي لصالح مشاريع الهيمنة.