لعدة عقود، تابع العالم تغير حدود الشرق الأوسط، وسقوط أنظمة، وتفكك مجتمعات — دون أن يربط ذلك بالحقيقة الأعمق والأكثر إزعاجًا: هذه الأحداث لا تحدث صدفة. بل تتماشى، بشكل مزعج، مع رؤية جيوسياسية ولاهوتية تُعرف باسم مشروع “إسرائيل الكبرى”.
هذه ليست نظرية مؤامرة تُهمس في الزوايا المعتمة للإنترنت. إنها عقيدة متجذرة في نصوص مقدسة، ووثائق استراتيجية، وتسريبات دبلوماسية. تمزج بين قناعات دينية صهيونية متطرفة وطموحات علمانية عالمية — وآثارها مكتوبة بدماء الشعوب.
وعد مرسوم بالدم: الأسس التوراتية والتلمودية
أول تصور لفكرة “إسرائيل الكبرى” جاء في التوراة ذاتها. في سفر التكوين 15:18، يقول الله لإبراهيم:
“لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ”.
هذا “الوعد الإلهي” استُخدم مرارًا من قبل الصهاينة الدينيين لتبرير التوسع الإقليمي — ليس فقط ضمن حدود ما قبل 1967، بل عبر مساحات من مصر، الأردن، سوريا، لبنان، العراق، وحتى أجزاء من السعودية.
بينما يرى العديد من علماء اليهودية هذا النص بشكل رمزي، فإن المستوطنين المتشددين والأحزاب القومية يقرأونه حرفيًا — كواجب ديني لاستعادة كل الأراضي بين النيل والفرات.
ويُضيف التلمود البابلي طبقة مقلقة من العقيدة التفوقية. في سفر سفيريم 15:10، يُذكر:
“حتى أفضل الأمم يجب أن يُقتلوا.”
وفي سنهدرين 57أ، لا يُدان اليهودي إذا قتل غير اليهودي، وفي بابا كما 113أ يُسمح بالخداع والسرقة من غير اليهود ضمن تفسيرات معينة. أما في الزوهار، فالعرب يُوصفون بأنهم “حمير المسيح”، خُلقوا لخدمة بني إسرائيل.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
هذه النصوص، رغم الجدل حولها داخل الأوساط اليهودية، تُلهم فكر الحركات الاستيطانية والأحزاب الدينية الراديكالية في إسرائيل، التي ترى الفلسطينيين عائقًا أمام تحقق النبوءة.
وهذه العقائد لا تبقى بين جدران المعابد. بل تتسرب إلى السياسة، والتخطيط العمراني، والسلوك العسكري، والتعليم. تصريح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عام 2023 — “حقي في الحياة أهم من حقهم في التنقل” — يُعبّر عن رؤية متجذرة في الاستعلاء اللاهوتي.
خطة ينون: فرق تسد
في عام 1982، نشر الاستراتيجي الإسرائيلي عوديد ينون ورقة بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات”. جادل فيها بأن بقاء إسرائيل مرهون بتفكيك الدول العربية المحيطة على أسس طائفية وعرقية.
العراق، سوريا، مصر، لبنان — يجب أن تتحول إلى كيانات أصغر وأضعف. الحروب الأهلية والانقسامات القبلية والانهيار الاقتصادي ليست تهديدات، بل أدوات لضمان أمن إسرائيل.
رؤية ينون كانت نبوءة قاتمة تحققت. فخلال العقود التالية، تسببت الحروب الغربية والانتفاضات الداخلية (بدعم خارجي غالبًا) في تفكيك النظام العربي:
- العراق انقسم إلى كردي وسني وشيعي.
- سوريا تحولت إلى ساحة صراع دولي.
- ليبيا غرقت في الفوضى.
- السودان انقسم إلى دولتين.
رغم أن هذه الأحداث بُررت بخطاب “الديمقراطية”، فإن نتائجها تخدم تمامًا أهداف ينون: إضعاف العرب وصعود إسرائيل.
الماسونية وأسطورة الفوضى
بعيدًا عن اللاهوت والسياسة، يوجد تيار خفي — يجمع بين رؤى الماسونية الغامضة والطموحات الصهيونية. في عام 1871، كتب ألبرت بايك — جنرال أمريكي وعضو بارز في الماسونية — رسالة محفوظة في المتحف البريطاني (جدلية في مصدرها، لكن لافتة في مضمونها):
- الحرب الأولى لتدمير روسيا القيصرية وبناء الشيوعية.
- الثانية لتدمير الفاشية وبناء الصهيونية.
- الثالثة: صدام بين الصهيونية السياسية والإسلام، يعقبه فوضى عالمية، ثم نظام شيطاني.
سواءً كانت رمزية أو عملية، فإن الأحداث الواقعية تتطابق بشكل مريب مع هذه الخطة.
شعار الماسونية — النظام من الفوضى (Ordo ab Chao) — يبدو مجسدًا في الشرق الأوسط. فكل فوضى جديدة، من بغداد إلى دمشق، تؤدي إلى إعادة تشكيل جيوسياسية جديدة — دائمًا لصالح إسرائيل.
حتى الرموز الماسونية تظهر في مشاريع مثل نيوم السعودية — مدينة ذكية ما بعد الإسلام، بتكنولوجيا إسرائيلية، وترويج عالمي تحت رعاية الغرب.
ويكيليكس وغزة: استراتيجية الخنق
في عام 2008، كشفت وثيقة مسربة عبر ويكيليكس (08TELAVIV2447_a) عن خطة إسرائيلية للإبقاء على اقتصاد غزة على حافة الانهيار. أخبر المسؤولون الإسرائيليون نظراءهم الأميركيين أنهم سيسمحون بدخول كميات من الغذاء تكفي لتجنب المجاعة — لكن دون أن تسمح بالحياة الكريمة.
هذه ليست حربًا. بل حصارٌ منهجي.
رؤية “إسرائيل الكبرى” لا تتطلب الأرض فقط، بل تدمير السكان الفلسطينيين — نفسيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
تسريبات أخرى كشفت عن تعاون سري بين الخليج وإسرائيل قبل التطبيع العلني. اتفاقات أمنية، مرور جوي، ومصالح مشتركة — تمهيد لصمت عربي أمام تهويد القدس.
الخاتمة: الحلم الذي يُقتلون لأجله
“إسرائيل الكبرى” ليست خيالًا. بل مخطط. عقيدة تجمع بين النصوص، والاستراتيجيات، والتواطؤ.
يتطلب تنفيذها مطلقية دينية، فوضى إقليمية، خيانة نُخَب، وتعتيم عالمي. بينما يتحدثون عن الأمن والسلام، تُبنى على الأرض دولة فصل عنصري.
لكن القرآن سبقنا بالتحذير:
“ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا…” — البقرة 217
“ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين” — الأنفال 30
في زمن تُرسم فيه الخرائط بنبوءات، وتُحرس فيه الحدود بطائرات، أعظم مقاومة هي الحقيقة. وأخطر ما يهدد مخططهم — أمة تبصر.