في سياق ما يوصف بجهود “الإصلاح” في الأراضي الفلسطينية، تكشف مصادر دبلوماسية عن إصرار إماراتي واضح على فرض تغييرات جذرية في منظومة التعليم الفلسطينية، بحجة مكافحة “خطاب الكراهية” و”التحريض ضد إسرائيل”.
ورغم أن هذا الطرح يتم تسويقه بمصطلحات براقة تتحدث عن “التسامح” و”التعايش”، إلا أن جوهره ينطوي على مشروع خطير لتصفية الهوية الوطنية الفلسطينية، يتماهى بشكل كامل مع أجندة الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ توقيع اتفاقيات “أبراهام” عام 2020، تجاوز الدور الإماراتي حدود التطبيع التقليدي، ليصل إلى مستوى من الشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل يشمل ملفات الأمن، الاقتصاد، والإعلام. اليوم، يتضح أن هذا الدور يمتد أيضاً إلى هندسة الواقع الفلسطيني الداخلي، عبر محاولات التأثير المباشر في منظومة التعليم، إحدى أهم ركائز الهوية الوطنية.
ما تطلبه الإمارات ليس مجرد “إصلاح تربوي” بحت، بل إعادة صياغة للوعي الفلسطيني وفقاً لرؤية تتماشى مع الرواية الصهيونية.
إذ أن مصادر مطلعة تؤكد أن أبوظبي تضغط في أروقة المانحين الدوليين لربط أي مساعدات مستقبلية بإزالة ما تصفه بـ”المواد التحريضية” من المناهج الفلسطينية، في إشارة إلى المضامين التي تتناول النكبة، الاحتلال، وحقوق اللاجئين، وحتى تلك التي تكرّس حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.
من التطبيع إلى تصفية القضية
يتماهى هذا الطرح مع السياسات الإسرائيلية الرامية إلى شطب الرواية الفلسطينية من الوعي الجمعي، وفرض سردية “السلام الاقتصادي” بديلاً عن الحقوق السياسية والتاريخية. الدور الإماراتي هنا لا يقتصر على ترديد خطاب تل أبيب، بل يتعداه إلى تقديم أوراق اعتماد عبر تنفيذ أجندات الاحتلال بوسائل ناعمة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
في هذا السياق، تعمل الإمارات على الترويج لنموذج تعليمي “حديث” في الضفة الغربية، يشبه ذلك الذي ترعاه في مدارس القدس الشرقية عبر مؤسسات محسوبة عليها.
وهذا النموذج يتعمد تغييب مفردات مثل “احتلال”، “مقاومة”، و”تحرير”، مقابل التركيز على قضايا تقنية كريادة الأعمال والابتكار، في محاولة لفصل الأجيال الفلسطينية عن جذور قضيتهم.
هندسة الوعي عبر التمويل المشروط
ليست هذه المحاولة الأولى التي تُستخدم فيها المساعدات كأداة ابتزاز سياسي. الجديد هو أن أبوظبي باتت تلعب هذا الدور بالنيابة عن إسرائيل، مستخدمة نفوذها المالي في الضغط على السلطة الفلسطينية، التي تعاني من أزمة مالية خانقة.
تسعى الإمارات إلى استثمار هذا الواقع لفرض أجندتها، بدعوى “تطوير” التعليم الفلسطيني وفقاً لمعايير دولية.
لكن المعايير المقصودة هنا لا علاقة لها بجودة التعليم بقدر ما ترتبط بإفراغه من مضمونه الوطني.
ويترافق ذلك مع ضغوط لإشراك مؤسسات إماراتية في صياغة المناهج، وتقديم برامج تدريبية للمعلمين تتبنى مقاربة “حيادية” تجاه الاحتلال.
ارتدادات خطيرة على المستقبل الفلسطيني
إن خطورة هذا المشروع لا تكمن فقط في محتواه، بل في سياقه السياسي الأوسع. فالتدخل الإماراتي في ملف التعليم يأتي ضمن مسار أشمل لتفكيك القضية الفلسطينية إلى ملفات خدماتية منفصلة عن جوهرها السياسي.
وهو مسار يتقاطع مع رؤية إسرائيلية قديمة لتجاوز قضية الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر مشاريع اقتصادية وتعليمية تروّج لواقع الاحتلال كأمر طبيعي.
بمعنى آخر، تسعى الإمارات من خلال هذه السياسات إلى إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني بطريقة تجعل الأجيال القادمة أكثر تقبلاً للاحتلال وأقل ارتباطاً بروايتها التاريخية.
وهو أمر لا يقل خطورة عن مشاريع الاستيطان أو تهويد القدس، بل ربما يتفوق عليها من حيث تأثيره الاستراتيجي طويل الأمد.
تواطؤ ناعم بوجه استعماري
رغم كل ما يُقال عن “التسامح” و”دعم السلام”، فإن حقيقة الدور الإماراتي تنكشف يوماً بعد يوم كجزء من مشروع إقليمي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية تحت شعارات براقة.
فالتطبيع الذي بدأ كخيار سياسي بين حكومات، يتحول اليوم إلى مشروع هندسة اجتماعية وثقافية، يهدد بإفراغ الهوية الفلسطينية من مضمونها.
منظومة التعليم ليست ساحة صراع جانبية، بل هي جبهة مركزية في معركة الوعي. وحين تصبح هذه المنظومة عرضة لابتزاز سياسي من أطراف تدّعي الوساطة بينما تتبنى حرفياً أجندة الاحتلال، فإن الخطر يصبح وجودياً.
وما يحدث اليوم من ضغوط إماراتية في ملف التعليم الفلسطيني هو جزء من معركة أكبر على الذاكرة والهوية. والإمارات، باندفاعها نحو التماهي مع السياسات الإسرائيلية، تلعب دوراً تخريبياً لا يمكن فصله عن محاولات تصفية القضية برمتها.