وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالآدَابِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا وَتَعْظِيمِ المتصف بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلَّقِ بِهَا وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَهُوَ الاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا، فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا وَالاعْتِدَالَ إِلَى غَايَتِهَا حَتَّى أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خلق عظيم) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها: كان خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ بِسَخَطِهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) ، قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَعَنْ عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مَجْبُولًا عَلَيْهَا فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ وَأوَّلِ فِطْرَتِهِ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ بِاكْتِسَابٍ وَلَا رِيَاضَةٍ إِلَّا بجود إلهى وَخُصُوصِيَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ، وَهَكَذَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ حَقَّقَ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عِيسَى وَمُوسَى وَيَحْيَى وسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بَلْ غُرِزَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي الْجِبِلَّةِ وَأُودِعُوا الْعِلْمَ وَالحِكْمَةَ فِي الْفِطْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صبيا) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَعْطَى اللَّهُ يَحْيَى الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ صِبَاهُ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ ابْنُ سَنتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ لِمَ لَا تَلْعَبُ؟ فَقَالَ (ألِلَّعِب خُلِقْتُ) ؟ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ سِنِينَ فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرَوْحُهُ، وَقِيلَ صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ تَحِيَّةً لَهُ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى لأُمِّهِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ لَهَا (لَا تَحْزَنِي) عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (مِنْ تَحِتَهَا) وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُنَادِي عِيسَى وَنَصَّ عَلَى كَلَامِهِ فِي مَهْدِهِ فَقَالَ (إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وجعلني نبيا) وقال تعالى (ففهمناها سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حكما وعلما) وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ فِي قَضِيَّةِ الْمَرْجُومَةِ وَفِي قِصَّةِ الصَّبِيِّ مَا اقْتَدَى بِهِ دَاوُدُ أَبُوهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ إِنَّ عُمُرَهُ حِينَ أُوتِيَ الْمُلْكَ اثْنَا عَشَرَ عَامًا، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَأَخْذَهُ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ طِفْلٌ.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: اصْطَفَاهُ قَبْلَ إِبْدَاءِ خَلْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا وُلِدِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا يَأمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَلْبِهِ وَيَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ فَذَلِكَ رُشْدُهُ، وَقِيلَ إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ وَمِحْنَتَهُ كَانَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِنَّ ابْتِلَاءَ إِسْحَاقَ بِالذَّبْحِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكوْكَبِ والقمر وَالشَّمْسِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يوسُفَ وَهُوَ صَبِيٌّ عند ما هَمَّ إِخْوَتُهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ يَقُولُ اللَّهُ تعالى (وأوحينا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) الآيَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ.
وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أكن آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدِ حِينَ وُلِدِ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمَّا نَشَأْتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ وَلَمْ أَهِمُّ بشئ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِليَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا ثُمَّ لَمْ أَعُدْ) ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ وَتَتَرَادَفُ نَفَحَاتُ الله تعالى علهيم وَتُشرِقُ أنْوَارُ الْمَعَارِفِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الْغَايَةِ ويَبْلُغُوا بِاصْطَفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْخِصَالِ الشَّرِيفَةِ النِّهَايَةَ دُونَ مُمَارَسَةٍ وَلَا رِيَاضَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَمَّا بَلَغَ أشده واستوى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وقد نَجِدُ غَيْرَهُمْ يُطْبَعُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ دُونَ جَمِيعِهَا وَيُولَدُ عَلَيْهَا فَيَسْهُلُ
عَلَيْهِ اكْتِسَابُ تَمَامِهَا عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضُ الصِّبْيَانِ عَلَى حُسْنِ السَّمْتِ أَوِ الشَّهَامَةِ أَوْ صِدْقِ اللِّسَانِ أَوِ السَّمَاحَةِ وَكَمَا نَجِدُ بَعْضُهُمْ عَلَى ضِدِّهَا، فَبِالاكْتِسَابِ يَكْمُلُ نَاقِصُهَا وَبِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ يُسْتَجْلَبُ مَعْدُومُهَا وَيَعْتدِلُ مُنْحرِفُهَا، وَبِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهَا، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلِهَذَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا: هَلْ هَذَا الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ أَوْ مُكْتَسَبَةٌ؟ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ جِبِلَّةٌ وَغَرِيزَةٌ فِي الْعَبْدِ، وَحَكَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَبِهِ قَالَ هُوَ، وَالصَّحِيحُ مَا أصَّلْنَاهُ.
وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلُّ الْخِلالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا المُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيانَةَ وَالْكَذِبَ) وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ: والْجُرْأَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ يَضَعُهُمَا اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ.