إنّ لفظ “الاستواء” في لسان العرب له معانٍ متعددة، تختلف بحسب السياق والسباق، وهو من الألفاظ التي يجب التعامل معها بضوابط الشرع والعقل، خصوصًا عند وروده في النصوص الشرعية المتعلقة بالله تعالى. وقد أجمع أهل السنة، وعلى رأسهم أئمة الأشاعرة، على تنـزيه الله سبحانه عن الجهة، والمكان، والحدود، والتغيّر، وما يلزم المخلوقات من صفات، فلا يُفهم من لفظ الاستواء ما يوهم التجسيم أو الجلوس أو الاستقرار الحسي، بل يُفهم على ما يليق بالله تعالى، مع تفويض المعنى إلى الله أو تأويله تأويلاً سائغًا على ضوء ما ثبت في اللغة وقرره أهل العلم.
وفيما يلي أبرز معاني الاستواء في لغة العرب:
1. التمكن والاستقرار
كما في قوله تعالى:
{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]
أي: استقرّت سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودي.
ومن ذلك قولهم: استوى الرجل على ظهر دابته، أي: استقرّ وتمكّن عليها.
2. الاستقامة والاعتدال
قال تعالى:
{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]
أي: اعتدل النبات واستقام على ساقه.
قال أبو حيّان في البحر المحيط (ج8/103):
“فاستوى: أي تمّ نباته على سوقه”.
وقال البيضاوي في أنوار التنـزيل (ج5/ص86):
“فاستقام على قصبه”.
وقال القرطبي (ج16/295):
“استوى على سوقه: على عوده الذي يقوم عليه”.
وقال الزبيدي في تاج العروس (ج10/188):
“استوى: اعتدل”، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}.
3. التمام والكمال
قال تعالى:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]
أي: اكتملت قوته الجسدية والعقلية.
قال في القاموس: “استوى الرجل: بلغ أشده”.
وقال الزبيدي: “أي تمّ ونضج عقله وقوّته”.
وفي لسان العرب عن الفراء: “الاستواء في كلام العرب: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته”.
4. الاستيلاء (بمعنى القهر والغلبة)
يقال: استولى فلان على البلد، أي: غلب عليها وحاز ملكها.
قال الفيومي في المصباح المنير (ص113):
“استوى على سرير الملك: كناية عن التملّك وإن لم يجلس عليه”.
وهذا المعنى معروف عند العرب قديمًا، ولا يستلزم الجلوس أو الحلول.
5. النضج
قال الفيومي:
“استوى الطعام: نضج”.
أي بلغ درجة الاستواء التام التي تجعل الشيء صالحًا للاستعمال.
6. القصد والإقبال
يقال: استوى إلى العراق، أي: قصدها.
قال ابن منظور:
“بلغ الأمير من بلد كذا ثم استوى إلى بلد كذا: أي قصد إليه”.
وقال الفراء:
“كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ: أي أقبل إليّ”.
7. التماثل والتساوي
قال في المصباح المنير:
“استوى القوم في المال: إذا تساووا فيه”.
وفي لسان العرب:
“استوى الشيئان وتساويا: تماثلا”.
8. الجلوس (عند المخلوقين)
يقال: استوى على السرير، أي جلس عليه.
وهذا المعنى مستحيل في حق الله تعالى، لأنه جلّ وعلا منزّه عن الجلوس والتغير والحدود.
9. العلو (رتبة أو مكانًا)
قال ابن منظور:
“استوى أي علا، تقول: استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت”.
لكن العلو المكاني مستحيل في حق الله تعالى، لأنه يقتضي حلولًا وحدًّا وجهة، وكل ذلك من صفات الخلق.
وأما علوّ الله، فبمعنى العلو بالقهر والقدر والمنزلة، لا بالمكان والجهة.
قال الفيروزآبادي:
“استويتم: أي ركبتم واستعليتم” [الزخرف: 13].
خاتمة
الاستواء في اللغة العربية له معانٍ عديدة، وكلها صحيحة في اللغة عند وقوعها على الخلق. أما إذا نُسبت إلى الله تعالى، فيجب حملها على ما يليق به سبحانه، مع نفي الكيف والمكان والجهة عنه. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته:
“ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر”.
ولا يصح أن يُقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، لأن الكيف في حق الله ممتنع، وليس مجهولًا، إذ الجهل إنما يكون في موجود، والله منـزّه عن الكيف أصلًا.
قال الإمام مالك رحمه الله حين سئل عن الاستواء:
“الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”
— أي: لا يعقل في حق الله كما يُعقل في خلقه.
نسأل الله تعالى الثبات على العقيدة الصحيحة، وحُسن الفهم في الدين، والنجاة من زيغ المتشبهين بالمجسّمة أو المعطّلة، آمين.